ثقافة وفن

د. نجاح العطار… صورتان عن قرب

| إسماعيل مروة 

الشيء الذي لم أكن أحلم به هو أن ألتقي سيدة البيان والبلاغة والأدب، السيدة الأديبة الدكتورة نجاح العطار، فمذ بدأت أحبو في عالم القراءة والأدب كان اسمها يتردد في سمعي، وكان حضورها الآسر يأخذني، وإذا ما تحدثت الدكتورة العطار كتابة أو ارتجالاً كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يقفز إلى مخيلتي، كلاهما فصاحة وبيان آسر، وإن كانت الدكتورة العطار أكثر سعياً وراء اللغة المجنحة العالية، وقد تابعت كماً كبيراً من كلماتها، بما فيها الكلمات الرسمية، ولم أجد يوماً أن الكلمة موجهة لمناسبة بقدر ما هي خطاب لروح الإنسان.. أول مرة رأيت الدكتورة العطار كانت قبل أكثر من ربع قرن، كنت يومها أمضي أمراً جانب مشفى الطلياني، فرأيتها تنزل من سيارتها، وهناك جمهرة من الناس بانتظارها، تبعتها وتركت موعدي، فإذا بها تدلف إلى قبو ينفتح على صالة جميلة وراقية، جالت الدكتورة العطار في أرجاء معرض الفنان الذي التقيته أول مرة، ورحت أرقب اللوحات المعلقة حتى غادرت السيدة الوزيرة يومها الصالة، وبقيت أستمتع باللوحات والضيافة، ومنذ ذلك اليوم بدأت علاقتي بغازي الخالدي (أبو الود) رحمه الله، بل بدأت علاقتي بالفن التشكيلي وتذوقه.. عرفت من الخالدي، ومن الفنانين الذين ارتبطت معهم بعلاقة ما بين الصداقة والعلاقة العابرة، أن السيدة الوزيرة تحضر المعارض في الأغلب، وتقتني اللوحات، وتؤمن حاجات الفنانين، وسعت لازدهار نقابتهم، ورفعت سعر اللوحة إلى مرتبة مقبولة.
وفي عام 1998 زرت القاهرة أول مرة، وهناك التقيت عدداً من كبار مثقفي مصر، فانهالت الإشادات بما قدمته السيدة الوزيرة، من جمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وغيرهما من الأدباء الكبار الذين صاروا على علاقة قوية بسورية ومثقفيها وثقافتها بسبب ما لقوا من احترام عال للمثقف.. وتكرر الأمر عندما التقيت الشاعر المعمم مصطفى جمال الدين صاحب الديوان، والباحث اللغوي الذي عزز كل ما سمعته عن السيدة الأديبة وما تحمله للثقافة، والذي عاد بدوره على سورية العظيمة بفوائد كبيرة لانزال نحصد نتائجها إلى اليوم.. وعلاقتها بلبنان، والتي نشرتها في كتاب منذ مدة بسيطة كنت سمعت عنها من الشاعر جوزيف حرب، الشاعر الذي أحب سورية وغناها وتغنى بها، وبقي مخلصاً لها حتى رحيله، ومن الأسباب التي جعلته مع سورية بهذا الشكل السيدة الدكتور نجاح العطار التي قدرت أدبه وشعره، وتعاملت معه برقي وأدب قلّ نظيرهما.
أما الصورتان اللتان أقف عندهما، فهما خاصتان بالشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري، وأنا بحكم السنّ أنتمي إلى الجيل الذي شهد، وإن عن بعد، عن طريق الإعلام، تلك الحركة الشعرية والثقافية التي كانت في سورية في الثمانينيات، ولا أغالي إن قلت: إن الجواهري أبو الفرات، وشعره كان في المكانة الأولى والأكثر نشاطاً.
الزمان: مساء وقبل مغيب شمس الجواهري
المكان: مكتبة الأسد الوطنية بدمشق
الحدث: تكريم الشاعر الجواهري
نزل الجواهري من سيارته متعباً ومريضاً، يحمل منديله بيده، وتستقبله على الباب الخارجي السيدة الوزيرة، وتحتفي به كما يليق بشاعر غنى العروبة والعراق والشام وبراغ، وقاوم المستعمر وقرّعه… في تلك الأمسية تمكنت من مصافحة الجواهري، الشاعر الذي رددت أشعاره في مقاومة المستعمر في مناهجنا القديمة التي حفلت بعيون القصائد الشعرية.. كانت أمسية كالحلم في الذاكرة، لكنها راسخة بالكلمات القليلة التي سمح بها المرض، وأذنت بها السنّ للشاعر الكبير، الذي عشق الشام لا زلفى ولا ملقا.
والاحتفاء بالجواهري لم يكن احتفالاً بروتوكولياً كما قد يفعل الكثيرون، فكما كرمته سورية، كرم سورية، وكما قدمت له، استطاعت السيدة الدكتورة أن تستخرج منه ما يفيد سورية ووزارتها وثقافتها، ففي سورية، وعلى مطابع وزارة الثقافة صدر ديوان الجواهري في أفضل طبعاته وأتمّها، وهل أجمل من أن يكون للجواهري طبعة سورية، صنعت على عينه وبإشرافه ورعاية الأديبة العطار وتقديمها؟!
وفوق ذلك استطاعت الرعاية المميزة أن تحقق الاستقرار للجواهري، وهو وحده بين الشعراء من يقدر على ذلك، لأنه من الرتبة المقاربة لشاعر الحماسة أبي تمام، فكما تقول الرواية، حُبس أبو تمام بسبب عوارض الطبيعة فأنجز حماسته التي اختطت منهجاً من الاختيارات والحماسات من التصنيف العربي، حتى صار كل من اختار له أبو تمام يدعى بالشاعر الحماسي، وها هو الجواهري بعد أن أنجز ديوانه، وأصدره بعناية أستاذنا الراحل عدنان درويش المحقق والعالم، يتفرغ لإنجاز مشروع، لم ينجز منه سوى جزئه الأول، ولو اكتمل المشروع الثقافي لكان من أهم منجزات الشعر العربي الحديث والتأليف فيه، وأعني هنا (جمهرة الجواهري).
لست أدري من أقنعني يومها أن شعر الجواهري صعب ولا يقرأ، وليس من داع للقيام بشرائه، مع أنني كنت أجمع ما تيسر لي من كتب ودواوين قديمة وحديثة، وعندما سارعت لاقتنائه، لم أجد منه سوى جزء، وحصّلت نسخة من ديوان الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، الذي اعتنت به السيدة الوزيرة كذلك، وحصلت على الجمهرة في الجزء الأول على أمل متابعتها، لكن الجمهرة لم تكتمل، ولم تجد محاولاتي في إتمام ديوان الجواهري الذي بقي غصة لدي، فأنا أهتم بشاميات وسوريات كل من عشق الشام، وكان هواه شامياً بالانتساب أو بالفكر.
الزمان: صباح دمشقي يغطيه الندى
المكان: مكتب ثقافة وأدب بدمشق
الحدث: اكتمال لقائي بالجواهري
قبل أسبوعين تكرمت بلقاء الدكتورة نجاح العطار، ورحت أنهل من لغتها ومفرداتها وأدبها، ودارت أحاديث كثيرة حول الشعراء والأدباء، وناقشت معي بعض القضايا المتواضعة التي أثيرها، وطمأنتني إلى أن ما أكتبه يلقى عنايتها، وفي ذلك اليوم كرمتني بالموافقة على حضور أولى ندوات الأربعاء الثقافي عن خير الدين الزركلي، وهي المعنية به، وقد حاورته في بيروت عام 1969، وساعدني في إقناعها الدكتور ماجد العظمة الذي أثنى على هذا الجهد، وأحمل عباراته ديناً عندي.. قلت لها: كان بودي أن أتحدث عن شاميات الجواهري، لكن ديوانه غير مكتمل لدي.. وودعتها.
في الزمان الندي تطلبني الأديبة الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، ولا أعرف السبب، وعندما شرفت بلقائها ولقاء الدكتور ماجد العظمة، ونجلهما الدكتور وائل، قالت لي: أمنت لك ديوان الجواهري، لأنك ستقرؤه وتستحقه.
كنت سعيداً بالديوان كما لم أسعد باقتناء كتاب، فهو من النوادر، ومن المؤكد أن السيدة الدكتورة بذلت جهوداً للحصول عليه.
صورتان عن قرب، وبعض الحواشي أجدني أهرع إلى تدوينها للدلالة على أهمية المثقف والثقافة، وليس للتدليل على نبل الأديبة الدكتورة العطار، فنبلها ونبل اختيارها لتكون وجه سورية الثقافي لا يحتاجان إلى دليل، فلتبق وجهاً مشرقاً للثقافة السورية والإنسان السوري، وهذا الوجه الثقافي كفيل بعودة سورية، لأن الثقافة أول الاحتياجات والعلاج الوحيد مما نحن فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن