ثقافة وفن

مرآة روح.. أم لا ترحل

| إسماعيل مروة 

أيتها القديسة التي لا تطال
أيا أم… يا أم الجميع
مناجاتك وإن غبت في مكان قصي لا يصله البوح، ولا تتمكن منه المناجاة، هي بين يديك ولك وعنك وبك، ووحدك وأنت تقتربين من وليدك الذي استخرجته من ذاتك، من أحشائك، من روحك، من بعض بعضك، فوهبته روحاً وحياة وشكلاً.
ومناجاتك وإن كنت لصيقة به، سماء تغطيه عباءة تظله دعوة تلاحقه كتابة تحميه بأنفاسك التي لا تتوقف عن الخفقان، وإن تهيأ للرائي أن الأنفاس يتبعها توقف، ولكنك لا تتوقفين عن الخفقان، ولا يتوقف الوليد عن الدوران.
قد ينحتك الوليد تمثالاً
يباهي به بجماليون وجمال صنعه
يباهي به أفروديت وعشتاروت وفينوس وربات الجمال في الأولمب، ولكنه عندما يركن إلى ذاته، يستخرجك من دمه، من روحه، من ذاته، من نور عينين بدأ الضوء يتلاشى منهما، فيجد أن صورة الوجدان أرقى، وصورة نحت العينين الكليلتين أسمى وأكثر خلوداً وخلداً، فيفتدي ما خرج منه ومن روحه، وأمام روعتك وعطائك تتحطم تماثيل الجمال، وتنتحر ربات الجمال، فأمك أجمل نساء الكون، وإن كانت غير ذلك وأمك الأطهر والأنقى لأنها سبب الوجود، وغاية الأمومة والخصب.
أيا أم
وإن كبر الوليد… يلقم ثديك فيشبع
يهرع إليك فيجد أمانه
ولا الثدي يعطي غذاء
ولا الجسد يحيطه
لكنه داخلك، وداخل ملكوتك يستعذب أن تلقميه غذاءك المعجون بك وبشفتيك، ويتشهى أن يدور فيك، فعندك الأمان الأمان الذي لا يستطيع أحد أن يناله من بوجودك.
رسالة الرب أنت
بقاء الخصب أنت
تطوقين الوليد بيديك
ترقبين شيطناته
تبسمين، تلتمع عيناك، يرتجف فؤادك
مني خرجت وإلى الخصب والأرض تعود
مني وإلي رحلتك
در ما شئت أيها الوليد، اكبر، تعملق، صر ما شئت تجول امتلك مارس دورتك في الحياة، إليّ عودتك، أنا مستقرك، ولكن إياك أن تنسى التمسح بي، الركوع على عتباتي, الطواف بين عيني وأطراف أصابع القدمين.
عيناي حرستاك وتحوطانك كل حين
عيناي تبرقان لألمك وفرحك
وقدماي تورمتا لك
قدماي تسعيان إليك
كلما دق ناقوسك أهرع إليك لأحميك
أيا وليدي افعل ما شئت ولكن عندما تحين اللحظة سأشرب دمعك حتى لا تغص به، سأمنحك نور عين حتى لا تعثر في طريقك سأكون قلبك المتعب، وأكون سمعك المرهف
أيا أم.. أيا سيدة كون..
بأي اسم كنت أنت شكل ألوهة
بأي شكل كنت أنت رسولة حب
بأي وأي
وحدك أباهي بك ويباهي كل بأمه
وحدك لا ينازعك أحد
أنت سيدة نساء الكون عند الوليد
وكم من سيدة للكون في عدد الأبناء!؟
أنت وحدك لا تكبرين
لا تشيخين… لا تموتين
كبرك عودة للصبا
شيخوختك احتفاء بالحياة
موتك انبعاث للخلود في الذات..
يذرف الوليد دمعات لرحيلك، وعندما يبقى وحيداً، ينظر في روحه، يراك في مرآة ذاته، يرى مرآتك التي لا تكذب، فيهرع إليها لمسحها واحتوائها، لا تجرح يديه، ولا تبتعد عنه، ويبقى ما تبقى ينظر فيها فيراك ولا يدركه يأس، ويرقب حراستك له، ويعرف أنك ملتصقة به.
من أمومة إلى أمومة تلك هي رحلة الوليد
تطمئن الأم إلى أن شمس أم بزغت فتودع
لا تترك وليدها بلا أم
لا تتركه دون أن تزرع مرآتها في جوهره
ومن الجوهر يقلم أظفارها وهي تبسم راضية، يمددها على سرير الألم وهي ضاحكة، وعندما يندار بسمعه وصوته تطلق صوتاً يصل عنان السماء.
وحين يعود لا يجدها
لكنها تبقى
ترحل باسمة إن سعدت وتألمت هي
ترحل راضية، وهي تستمتع بيديك والماء على جسد من قداسة وألوهة..
المهم ألا أفجع بك… كذلك هي الأم..
ترحل سعيدة إن لم تفجع
وترحل مختنقة بحبل الفجيعة إن..
أيا أم.. كل المسميات دونك وكل الألقاب..
كون أنت وأكوان
افتداء وسماء وخلود
وحدك وطن نحمله كيفما توجهنا
يقبل وردنا في أي لحظة وزمن
يقبل شيطناتنا ولا يعاتب..
من خلقك كان الوليد
حبل مشيمتك يلتف على عنقه
يمنحه دفئاً ولا يتجاوز
وفي كل حين، في الحضور والغياب
تمنحين روحه وجسده ما يبقيه في عبقك
يتلمس ذاته، إنها ذاتك
مزروع فيك.. ومنزرعة بمرآة روحه
وترقبين خطواته… ويرقب عودتك
وفي كل لحظة تعودين
لذاتك منحتك، للحب، للأرض
لوطن أنا في ترابه أنغرس
فلا تخنه يا ولدي
لا تخني

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن