تفكيك الجماهير
حسن م. يوسف :
على مر التاريخ كانت وسائل الإعلام ترمي لتغيير المتلقي من خلال إعطائه معلومات تنقله من حالة الجهل إلى حالة المعرفة، أو العكس، لخلق اتجاهات «جديدة»، أو دعم اتجاهات سائدة، أو تغيير اتجاهات منتشرة في المجتمع!
في عام 1967تنبأ الباحث الكندي «مارشال ماكلوهان» في كتابه «الوسيلة هي الرسالة» بتحول كوكب الأرض إلى «قرية عالمية تُوَفِّرُ فيها الوسائل الإلكترونية دفء وحميمية المجتمع القبلي» نتيجة تحرر الأفراد من مركزية الاتصال وسلبية التلقي، فالتطورات المتسارعة في مضامين وتقنيات الاتصال، ستتيح للأفراد قدراً كبيراً من التحكم بنوع الوسيلة المستخدمة، واختيار المضمون الملائم، ووقت العرض المناسب. وهذه نقلة نوعية غير مسبوقة في تعامل الإنسان مع بعدي الزمان والمكان.
في السابق كانت وسائل الإعلام تميل لتوحيد الجماهير من خلال رسائلها المركزية، لكن تطور وسائل الإعلام يأخذها الآن نحو «تفكيك الجماهير» وخاصة أن لا مركزية الاتصال تلائم رسائل الأفراد والجماعات الصغيرة، وتتيح لهم مشاركة شبه متساوية بين المرسل والمستقبل، ما يحول المجتمع من جمهور سلبي يكتفي بتلقي المعلومات، إلى مجموعة أفراد يستخدمون المعلومات ويسيطرون عليها.
صحيح أن نبوءة ماكلوهان قد تحقق معظمها، فثورة الاتصالات أعادت صياغة علاقة الإنسان بالزمان والمكان وأدت لانكماش أبعاد الكرة الأرضية وتحويلها إلى شبه «قرية عالمية»، كما دخلت البشرية فيما أسماه ماكلوهان بـ «عصر القلق» إلا أن وعي الإنسان بمسؤوليته، لم يزدد كما توقع، بل تراجع، والدليل على ذلك الحروب والأزمات التي تعصف بمصائر البشر أكثر فأكثر!
الشيء الذي لم يتوقعه ماكلوهان هو أن يؤدي التطور المتسارع لوسائل الاتصال واندماجها في شبكة الإنترنت إلى تحطيم «القرية العالمية» وتحويلها إلى شظايا. فالعالم الآن أشبه ببناء هائل يقيم فيه أناس كثيرون، يتواصلون مع أشخاص بعيدين عنهم لكن الواحد منهم لا يعرف شيئاً يذكر عن جيرانه الذين يقطن معهم في البناء نفسه ما يجعل وسائل الاتصال الحديثة تتحول إلى وسائل تفتيت بعكس وسائل الاتصال القديمة التي كانت عوامل تجميع.
أحسب أن تفتيت اللحظة البشرية، لم يبدأ، في ثمانينيات القرن الماضي، مع تحول الإنترنت من شبكة عسكرية أميركية إلى شبكة للعموم كما يعتقد كثيرون، بل بدأ، برأيي، مع اختراع أول وسيلة للاتصال تتيح للمرء التواجد في مكانين أو تلقي رسائل عبر زمنين.
فلحظة من يستمع للراديو تتفتت أفقياً بين الأغنيات والتعليقات والأخبار… الخ. إلا أن لحظة مشاهد التلفزيونات العربية، لا تتفتت أفقياً بين الإعلانات والبرامج المتتالية المتباينة وحسب، بل تتفتت عمودياً أيضاً بين المسلسل الدرامي، والأشرطة الإخبارية المختلفة، التي تسكب ماءها البارد على رأس المتلقي، أثناء عرضه، كي لا يتمكن من الاستغراق في أي تفصيل مما يشاهد.
لست من المتعصبين لأرسطو، ولا أقدس تعاليمه بضرورة الإيهام الفني، كما أنني لا أمانع أن يقوم الممثل بكَسْر اندماج المُشاهِد مع ما يراه لحثِّه على التفكير، بحسب تعاليم الموقر برتولد بريخت، لكنني لا أفهم ما يجري على الشاشات العربية حقاً. قد يقول قائل إن تفتيت اللحظة الدرامية بواسطة الإعلانات والأشرطة الإخبارية المتنوعة، هو نوع من «كسر الإيهام»! لكننا لا نسمح للإيهام بأن ينشأ بين المتلقي والعمل الفني، فنحن لا نسمح للإيهام أن يتحقق كي نكسره، إذ ما من قوة في العالم تستطيع أن تكسر إبريقاً غير موجود!