اقتصاد

فحص بطاطا!

| علي هاشم

بلحظة، عاد وزير التموين تلميذاً على مقاعد مدرسة «سوق الهال»، تلقى درساً من تجاره، وراكم معارفه- بطريقة الهرس- أنّ تنافس «البازار» ليس أكثر من بدعة، وأنّ «العرض والطلب» مجرد منحوتتين تصنعهما أياد خفيفة لقياس المسافة الفاصلة بين (عبّ المستهلكين وجيوب التجار)، ليس إلا!
من تلال «شوالات البطاطا» المكوّمة احتكاراً في الهال، حصدنا، وزيراً ومستهلكين، (جرزة) معارف حول قوى البازار: بعضهم مكّور مرقّط وبلا زوايا، وآخرون ناتئون تتبرعم منهم استطالات فاضحة تقابلها انخماصات تتخفى في ظلالها علاقات تخادم، وثالث يعاني لطخات عفونة يفوح منها الجشع!!
نظرياً، كشفت قضية البطاطا عما يشبه «رعاشاً نظمياً» تعانيه أذرع الحكومة، فمن قصور فعالية التدخل الإيجابي المبني على (مبدأ سلعة مقابل سلعة)، إلى وزارات فضّلت أن (تعمل حالها ميتة) كما الزراعة، وصولاً إلى احتكار الصمت المطبق لهيئة المنافسة (ومنع الاحتكار).. من ثم، وقد يكون الأهم، ذلك الهارموني المريب لنجاح الجمارك (غير المعهود) أثناء (عزّ دين) الأزمة المفتعلة، بضبط مئات أطنان البطاطا بعد ثبوت تهريبها (بالتحليل المخبري)، رغم فشلها المزمن في ضبط حمولات بواخر المهربات التي تمتد من ميناء مرسين التركي وحتى أسواقنا، وفق ما أعلن شيخ تجارنا غير مرة!!
أما عمليا، فمع إضافة جهد الجمارك المشكور، إلى مماطلتها في تمرير المصادرات إلى حيث يجب قبيل تعفّنها، وتزامنه مع احتكار التجار للبطاطا المستوردة، لربما يندفع المرء اضطراراً لتقليب (سيناريو النيات السيئة) واعتبار الأمر منهجبة متعددة الشركاء رأوا في استعمال جماهيرية البطاطا موسماً مناسباً لتحقيق مآرب متوقعة!!
ثمة أشياء أخرى قُيض استلهامها من ملف البطاطا بعد تحوله لما يشبه فحصاً سريرياً اختيارياً لأطرافه، فإن تشتري كيلو المستورد منها بأكثر من 500، بينما منشؤه القريب بـ90 ليرة، فهذا يعني أننا في بحر تجّاره أقراش ومستهلكوه سردين، وأن تكاليف النقل والنفقات «غير المنظورة» التي يواظب سحرتنا على صفعنا بها كلما ضبطوا متلبسين بجشعهم، لهي مجرد أكاذيب، وأن الدموع الباردة التي تسيل على صفحات وجوههم الوردية مع كل محاولة لتلطيف نزعاتهم، لا تعدو كونها «عدة شغل»!!
تعلمنا أيضاً أن للتجار متسعاً أخلاقياً كافياً لمعاقبة الحكومة بطعام مواطنيها، وقد يتم الأمر بالتكافل مع استطالات محتملة في جوفها، واطلعنا على قدرتهم الفريدة بالتلوّن كيفما شاؤوا، واصطباغ الأسواق وفق هرمية سلطانهم غير الموثّقة، إذ مثلاً، وقبل مداهمة وزير التموين لسوق الهال، من منا لم يسمع من «الخضرجية» اللازمة المنقولة بأمانة حول دور الكميات المستوردة كمتسبب رئيس بالارتفاع الجنوني لأسعار البطاطا، وبعد مداهمته لها؟ من منا لم يُحط علماً من هؤلاء بأن مصادرة الكميات المحتكرة هي السبب؟
بعد قمع أسعارها نهاية الأسبوع، حصد وزير التموين نجاحه في «فحص البطاطا»، ولقّن الحالمين بلي ذراع وزارته، ما خفي منهم وما ظهر، درساً إذ (لم يعد مقبولاً التهام التجار للبطاطا والتقشيرة)، وأن بعض اللحم مرّ لدرجة لا يصلح معها لتلقي الدروس حتى من «البازار» العظيم.
وبعد هذا، لربما تقتضي الحكمة ألا يخرج التجار من «الفحص» من دون تعلّم شيء ما، وقد يكون بأن الذهاب إلى الأعمق، قد يجرّ معه يوماً استخلاصاً اضطرارياً للبطاطا القابلة للقلي، وتلك المناسبة للشيّ، أو لربما تحويلها إلى «شيبس».. لا فرق، فالمهم ألا يتم التلاعب بالغذاء خلال الحرب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن