ثقافة وفن

أتمنى أن أغيب في مكان بعيد أنا ومن أحب … بسمة شيخو: قصيدة النثر هي اختبارٌ حقيقيٌّ للشعر فهنا لا موسيقا تسحر السامعين

| سارة سلامة

على هامش الاحتفاء بيوم الشعر العالمي، وضمن كوكبة من الشعراء كانت الشاعرة بسمة شيخو، فأظهرت مقدرة وحضوراً، ما دفعني لقراءة مجموعاتها فوجدت ما سمعته على الورق وهي السورية التي تعيش الوطن حباً وألماً وفرحاً..
في الرسم كانت تلهمنا.. وبالكلمة تسحرنا.. لطالما أثبتت نفسها في النثر وخطت سطراً مميزاً لافتة لها الأنظار عربياً وعالمياً، حتى منتقدو النثر لم يخفوا جمال لمستها.. وجاء في تقديم مجموعتها الشعرية «شهقة ضوء»، «ظاهرة مدهشة بحقّ! فتاة في الثامنة والعشرين عرفتْ بعض الخيبات المريرة التي تهدد عادةً أي إنسان وكأنّها تحررت منها وانتمت لصديقها الحميم: الشِّعر».
كانت دائماً الصوت الذي يعلو صوت الموت والدمار والقذائف، مؤثرةً حمل هموم دمشق كلها على كاهلها قائلة: «اليوم أحني ظهري لأكون عكازاً لكِ».
للشاعرة ثلاث مجموعات شعرية: «عبث مع الكلمات، «شهقة ضوء»، «آخر سكان دمشق».

كتبتِ قصيدتك الأولى في عمر 8 سنوات، هل تتحدثين لنا عن البداية وولادة موهبتك؟
البداية ضبابيةٌ مطموسة الملامح، لا أستطيع إمساك الخيط الذي تعلّقتُ به فأوصلني إلى الشّعر، هل قرأتُ أو سمعتً شيئاً فحاولتُ محاكاته بطريقتي! ربما كان هذا، لا أستطيع الجزم، لكنّ الحاضر الواضح الوحيد في ذهني هو فقط ما بقي أمامي في دفتر قديم زخرفته برسومٍ ملوّنة وكتبتُ عليه- في محاولةٍ بائسة للتخطيط- «دفتر شعر، تأليف بسمة شيخو» كنت أقضي ساعةً على الأرجوحة المعلّقة على شرفتنا، وأنشد فيها كلاماً لم أسمعه قبلاً أعيده مراراً، وسط فرحٍ غريب وإحساس يشبه نشوة الخلق يملؤك عندما تصنع ما لم يكن قبلك، أنزل مهروّلةً لتسجيله، أولى قصيدة– إن صحت تسميتها كذلك- كتبتُها هناك كانت بعنوان «عندما حدّثت القمر عن أحزاني» وذلك في عام 1994 كان عمري حينها ثماني سنوات، إلى الآن مازلت أهرول وأسجّل ما قلته، ومازال فرحٌ غريب يسيطر عليّ بعد الانتهاء من أي قصيدة.

بين الشعر والفن التشكيلي أين هي بسمة شيخو، ومن منهما يجعلها توصل مرآة روحها بشكل أكبر؟
الشّعر هو أداتي التعبيريّة الأولى، ردة فعلي تكون بالكلمات، بالكتابة، لكن للأمانة لا تحضر هذه الكتابات من دون رسوم متناثرة تلتهم بياض الورقة وتخلق حالةً من التوازن بين الصورة والكلمة على صفحتي البيضاء؛ أحياناً تخونني اللغة، فأخونها بدوري مع الرسم؛ أكره حالة العجز التي تصاحب انقطاع الوحي أو بلادة شياطين الشعر، فأبدّدها بالرسم أو العزف أو الرقص، حتى بالنسبة لي الأداة ليست مهمة بقدرما تكون الأهمية للتعبير الصحيح عن الفوران الداخلي للمشاعر والأفكار، والسعي وراء راحةٍ آنية شبيهة بالاستلقاء على أكداسٍ من القطن سرعان ما تتلاشى كأي غيمة، مع سعيٍ جديد وراء خلاصٍ جديد.

هل هناك دور للفن التشكيلي بالمساهمة في إغناء مادتك الشعرية؟
لم أكن أظنّ هذا إلى أن تكررّ سؤال وجه لي من قبل بعض من يقرؤون شعري (طبعاً من دون أن يعرفوا علاقتي بالفن) وهو، هل ترسمين؟
باعتبار أن الصور الشعرية في نصوصي مرسومة كمشهدٍ مسرحي، ما إن تسمعها أو تقرؤها حتى يرتسم أمامك بتفاصيله وألوانه.
قلتِ إنك لست قارئة جيدة للشعر وربما تسلمين للوصية التي تقول «على الشاعر أن يقرأ كل شيء إلا الشعر»، هل تخافين من الوقوع في مستنقع التشابه أو النمطية؟
قلت ذلك مرةً، وكان هذا صحيحاً في تلك الفترة، كان عليّ أن أبتعد عن قراءة الشّعر ريثما أمتلك بصمة خاصة بي، وذلك للسبب الذي ذكرته، خشيت من التكرار ومن احتيالات الذاكرة في اجترار صورٍ أعجبتها مرة وصياغتها من جديد، أو استخدام مفردات معينة وما إلى ذلك- لطالما انتبهت لحدوث هذا عند الكثيرين- ولطالما صليتُ لأن أكون بعيدة عن مستنقع التكرار والسرقة المقصودة وغير المقصودة أيضاً.
اليوم أنا أقرأ الشّعر من دون خوف، فقد عرفت نفسي الشّاعرة بشكلٍ جيد فأصبحت أميّز صوتها وملامح وجهها، أستمتع وأحلّق مع الشّعراء، أستمتع بجمال قصائدهم، وفي صدري يُغرز دبوس الغيرة أحياناً لينفجر بالونٌ يحمل صرخة: لمَ لم أكتب أنا هذا النص!

أشعارك تلامس الواقع ففي أماكن كثيرة نراك تحملين هموم الوطن ومن ناحية أخرى تحملين هموم الأنثى، ما دور القصيدة في قراءة الواقع؟ وهل ينبغي على الشاعر التطرق للواقع المعيش أم يأخذنا بعيداً عن التوتر الدائر في البلاد؟
ليت الشاعر يستطيع أن يأخذنا بعيداً عن التوتر في هذا البلد، إذاً لكنت أول من تتعلّق بجلبابه ولم أكن لأغادره البتة، لكن الشاعر ليس إلا إنساناً مبالغاً بحساسيته، يلتقط التفاصيل الصغيرة ويتركها تحفر عميقاً في وجدانه، وكأنه يكتب بسكين، شاء أم أبى سيظهر الواقع في كتاباته بشكلٍ واضح أو عبر إشارات وهمزٍ ولمزٍ لا ينتهيان، فالبيئة المحيطة هي المادة الخام التي ينحتها الشاعر بلغته ويقدّمها للمتلقي بقوالب جمالية تخدعه أحياناً وتلهيه عن بشاعة الواقع الراقدة بين الكلمات، لكن هناك استثناء طبعاً فمثلاً قد قرأتُ أن «هنري ماتيس» استمرّ برسم الورود على حين كانت ابنته وزوجه معتقلتين لدى النازيين، كان يقاوم من خلال الجمال ويحق لأي مبدعٍ أن يصنع مثله، أن يخلق الجمال فقط ليوازن كفة الحياة؛ وهنا أتحدث عن المبدع الحقيقي أما من يصطنع يستطع ببساطة أن ينفصل عن الواقع ويكذب ويكذب ويكذب.

تبتعدين بشكل واضح عن القصيدة ذات الأبيات الموزونة، وتبحرين في النثر هل تجدين أن النثر يعطيك الحرية والمساحة والمجال الأوسع؟
أكتب قصيدة النثر لأسبابٍ كثيرة طبعاً، فهي التطور الطبيعي للشعر– مع احترامي لأتباع الشعر العمودي وشعر التفعيلة- وأجد فيها الحريّة التامة لأقول ما أريد من دون أن تكبّلني قيود الوزن والقافية ولنفرض أنها قيودٌ ذهبية لا يلبسها إلا الأمراء والملوك، إلا أنها تبقى قيوداً وعثرة أمام انسيابية الشعر حين تتدفق على الورق؛ وهناك أمرٌ مهم بالنسبة لي وهو أنني أجد أن قصيدة النثر هي اختبارٌ حقيقيٌّ للشعر فهنا لا موسيقا تسحر السامعين ولا براعة باختيار قوافي صعبة يستعرض بها الشاعر عضلاته اللغوية، الأوزان تعلّم وتدرّس؛ أما الشّعر فلا، هناك من قال إن اختبار الشّعر يكون بترجمته وذاك يعني تخليصه من الإكسسوار اللغويّ وترك المعنى الذي يلامس الرّوح، ففي قصيدة النثر إن لم يكن الشعر حاضراً بذكائه ومفاجآته، بصوره وتفاصيله، بالرعشات التي يُدخلها إلى قلوبنا وبالبروق التي تلمع في رؤوسنا؛ فستصبح القصيدة مجرد كلامٍ عاديّ يفتح المجال أمام الكثيرين لاستسهال كتابة الشعر، ولآخرين للسخرية من قصيدة النثر.

دعوتِ لإعادة الفن إلى مكانه الطبيعي، ماذا تقصدين بذلك وهل تستطيعين تحمل هذا العبء الكبير؟
طبعاً لا أستطيع القيام بهذا وحدي، أنا أحاول فقط، أحاول أن يعود الفن قريباً من الناس ومفهوماً لديهم، أكتب في عدد من المجلات والصحف حول تجارب لفنانين تشكيليين عرب أسلّط الضوء عليهم وأقرأ أعمالهم، أحلّلها بشكلٍ بسيط لتكون حاضرة ضمن الجو الثقافي، وأحياناً أقوم بمناقشة بعض القضايا أو المشاكل الفنية التي تواجه المشهد الفني الحالي عسى أن أكون قد حفرت موضع إبرة ليدخل منها النور ضمن الجدار الكتيم القائم ما بين الفن والناس، فقد بات بعضهم يعتبر الفن ترفاً أو مجرد طلاسم لا تعنيهم، ولا وقت لها ضمن حياتهم المكتظة بالمشاغل والمتاعب.

نجد في قصائدك مشهدية كبيرة واندماجاً عضوياً بين الطبيعة والبشر، وأنسنة للأشياء هل تتحدثين لنا أكثر عن أسلوبك؟
الاندماج بين الطبيعة والبشر وأنسنة الأشياء هي أمور تخصّ حياتي بالمرتبة الأولى فأنا أتعامل مع الأشياء من حولي على أنها كائنات، وأتماهى مع الطبيعة ومكوناتها، فعندما أنزل البحر لا أحد يستطيع إقناعي بأنني لستُ قطرة ماء، وعندما ألامس شجرة أتحول لورقةٍ خضراء، كلّ ما أفعله في الكتابة هو تصوير ما يحدث معي وإدخالكم هذا العالم.

بسمة العاشقة الحالمة تأخذنا في حالة من الحب، والشوق، وعذابات الانتظار والحنين، والخوف، والحزن.. من المقصود في أبياتك هل تتكلمين عن بسمة أم تستوحينها من نسج خيالك؟
بسمة بالنسبة لي هي أنا وهي كلّ من حولي أيضاً، بسمة هي العاشقة التي ترقص فرحاً، الفتاة الطموحة والمرأة المكسورة، هي الأم التي مات ولدها فملأت الدنيا دمعاً، والأب الذي نفدت دموعه، أنا اللاجئ وأنا الجندي، أنا الشجرة، العصفور والزهرة على قارعة الطريق، أنا ذكرى الأمس وحلم الغد، أنا كل هؤلاء، ازدحامهم داخلي هو من يجعلني أكتب…
أكتب عن بسمة عن تجارب مباشرة تعيشها، وأكتب أحياناً عن قصصٍ عاشها أحد الكائنات الساكنة داخلي، أنا أميّز هذا جيداً، وأعتذر إن كان من يقرأ لي يرتبك بتناقضاتي، سيعذرني الآن بعد أن عرف القصة.

لديك ثلاث مجموعات شعرية هي: «عبث مع الكلمات»، «شهقة ضوء»، «آخر سكان دمشق»، ماذا عن جديد بسمة شيخو؟
المجموعة الرابعة توشك أن تنتهي، وأنا أعمل أيضاً على وضع اللمسات الأخيرة لكتابٍ يتعلق بالفن التشكيلي في الوطن العربي سيكون جاهزاً في وقتٍ قصير؛ هذان هما جديداي القريبان، مشاريع عديدة في مجال الفن التشكيلي تنتظر دورها، سأتحدث عنها في حينها.

ما طموحات بسمة، وإلى أي مستقبل تنظر؟
بسمة أحياناً لا تملك أحلاماً بعيدة، لا تبصر أبعد من أنفها؛ تقنع بما وصلت إليه وتتمنى أن تغيب في مكانٍ بعيد هي ومن تحب؛ وأحياناً تملك أحلاماً تكسر ظهرها تحملها وتسير في الحياة، ومهما حققت لا يحقّ لها الفرح فالحلم على ظهرها ما زال صغيراً لم يكبر بعد ليحملها ويتركها ترتاح على ظهره هذه المرة.
بخصوص المستقبل أنا متفائلة، لا أملك خياراً بذلك، المستقبل الذي أراه باسم ومشرق وإن كان كلّ ما نعيشه يكذّب رؤياي، سأكون زرقاء اليمامة وأقسم لكم أن فرحاً جديداً قادماً من بعيد، ووجه سورية سيعود باسماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن