سيتي سنتر «سوق البسطة»… آلام بشرية حيّة تعيش في رواية … بين خدر نشوة المتعة وأنين الألم … فيها البشر يعيشون اللحظة ولا يعنيهم أمر المستقبل
| سوسن صيداوي
العالم كلّه مهما اختلف بحضاراته أو شعوبه، بلغاته أو ثقافاته، هو واحد، فليس فيه من مدينة فاضلة أو مدينة ظالمة، ليس فيه فقر مدقع، أو غنى فاحش، لأن فيه من كل شيء أشياء، في العالم كلّه الحب والأمان والسلام والخير والعطاء والكرم، وبالمقابل فيه أيضاً الكره والرعب والإرهاب والشر والبخل، إذاً في العالم كلّه الأبيض والأسود. ومن العالم كلّه رواية سيتي سنتر «سوق البسطة» للروائي أسامة كوكش، التي أحداثها تدور ضمن مربع مكاني، هو سوق البسطة، الذي يمتدّ الزمن فيه عبر أشخاص منوعي التدرج الاجتماعي، الثقافي، الأخلاقي، المهني حتى المادي، وتتقلّب فيه الأحداث بتقلّب صفحات الرواية البالغة مئتين وثمانياً وثمانين صفحة.
سوق البسطة
في مكان جمع البؤس والفرح، الجوع والشبع، الظلم والعدل، الضحك والأنين، الفجور والعفة، الصراخ والصمت والكثير من المشاعر التي عبّر عنها الراوي عندما خلق شخصياته التي كانت تتحرك ويعيش مع مضي الأيام المتتالية ضمن سلوكيات متباينة بحسب المواقع الوظيفية، المهنية، وحتى الاجتماعية. «سوق البسطة» هو جامع الأحداث رغم ثبات أركانه، وهو كما وصفه الكاتب بأنه «المكان الذي لا تحكمه قوانين المدينة أو قوانين المناطق الراقية فيها، لكن مشكلة التسول في سوق كهذا دخله متدنّ قياسا إلى بقية مناطق المدينة، فمن يبع ويشتر فيه فليس أكثر من متسول تحت مسميات وظيفة أخرى»، وفي مكان آخر وصف السوق على الشكل التالي «في السوق غالبا لا أحد يختار اسمه، عمله أو موقعه، مرّ على المكان عبر عشر سنوات مئات الألوف من البشر، الرحيل كان السمة الدائمة لكل هؤلاء، طال الزمن أم قصر، كانت الوجوه والأسماء تتبدل، رغم أن من يجد مكانا فيها يعتقد أنه سيعيش الأبدية على إسفلت ساحتها المشبع بالحفر الملأى بوحل الحياة نفسها، أفضل ما في علاقات السوق أن التاريخ لم يكن شيئاً ذا أهمية على الإطلاق، فلا أحد يهتم أو يسأل الآخر لماذا وكيف انتهت به دروب الحياة إلى سوق البسطة، أما المستقبل فهو فكرة غامضة لا تعني شيئا، كل ما يهم هو اللحظة في زمن العبور هذا».
شخصيات الرواية
حكايا سوق البسطة تسردها لنا المشهدية الحركية لشخصيات تتنقل في إطار الأحداث، وفي الرواية شكّل الروائي عشرات الشخصيات المختلفة من رجال ونساء وأطفال، فيما يمكن تصوره من اختلاف، وتمضي في حكايتها مصوّرة بطريقة رائعة وهي:عبد اللـه المأمون، أبو داغر، ناجي، سجية، زيرو، غازي، أبو الخير، راغب السعدي وآخرون غيرهم ممن يعملون ويعيشون في السوق، وأروع ما في الأمر انتقال الراوي بين الشخصيات من شخصية إلى أخرى ببساطة مدعّمة بدقة غير متناهية، من دون إحداث أي خلل أو لبس على القارئ ضمن مجريات الوقائع المتحركة، فمثلا جاء وصف شخصية ناجي أبو داغر على الشكل التالي «ناجي منذ يفاعته كان شرسا لا يهادن، يدخل شجارا بخفة قط، يضرب بقوة غير متوقعة من شاب بحجمه، أطلق عليه والده اسم «أبو داغر»، أخذ يتباهى به، يمتدح براعته في استخدام السكين، بات الشاب الأقرب إلى قلب والده، خاصة عندما يحمل له بطحة عرق استولى عليها من هنا أو هناك».
ظلم المرأة والطفولة
تصوير البؤس في حياة البشر كان لغة تحدث بها الراوي عبر شخصياته، الذي تتفاوت نوعيته ودرجته من شخصية لأخرى، فمثلا في شخصية «سجية» وهي امرأة تجاوزت الأربعين، وكانت اعتنقت التسول في حياتها منذ كانت طفلة رضيعة في أسابيعها الأولى في الحياة، لأن أمها اعتادت أن تضع في حضنها آخر مواليدها مكررة بضع كلمات تدّعي فيها يُتم أولادها وجوعهم ومرضهم، وهذا بالطبع على مرآى والد سجية الذي يبقى مرتاح البال لما تجمعه زوجته وأطفاله من التسول، وبالعودة إلى سجية فهي امرأة بليدة، كسولة في كل شيء؛ المشاعر، الكلام، العمل، نظافتها الشخصية، التسول منذ الصغر وتبعاته من سجن وغيره من أمور جعل منها امرأة قاحلة لا تحمل بين جوانحها أي اهتمام.
ومن بؤس البشر شخصية «زيرو» الطفل الذي بدأ عمله في السوق في السادسة من عمره، لأن أباه ارتأى أن قارعة الطريق أفضل وأكثر نفعا من تعليمه، وكان عمل هذا الطفل البائس أن يحمل كيسا قماشيا للطحين ويضع فيه ما يقتنصه مما يسقط على الأرض من فواكه وخضراوات وحتى علب معدنية أو بلاستيكية، وطبعا اكتسب زيرو اسمه هذا، في يوم عندما ذهب إلى السينما كي يرى فيلم بطل المكسيك الأسطوري «زورو»، فتوجه من فوره إلى سوق البسطة واشترى جزمة بلاستيكية من أرخص الأنواع وقبعة قش بالية وأطلق على نفسه اسم «زورو»، الذي تحول بعد زمن قصير إلى زيرو. بؤس الحياة احتضن براءة هذا الطفل كي يزيدها قسوة وظلماً، لأنه لم يفلت من يد أبي داغر الذي وجده فتى سيرغب به زوار السوق الليليين مقابل أموال كانت لهذا الطفل تعادل جزيرة أحلام.
ظلم الحياة لأبو الوفا
الرواية لم تكن قسوتها مفروضة على الفقراء، بل تمادت لتلقي بثقلها حتى على من كانوا من «أولاد الأوادم» ففي شخصية مالك أبو الوفا وهو سليل عائلة عملت في تركيب العطور لسنوات طويلة، لم يرغب بالعمل مع والده في دكانه رغم أرباحها الكثيرة، بل فضّل الاعتماد على نفسه ماديا، ووجد نفسه موظفا في مديرية الاستملاكات العامة. ولأن الرشاوى هي القاعدة الأساس المتبعة في علاقات العمل داخل المدينة في مختلف الدوائر العامة وحتى الخاصة منها، وفي غمار فورات محاربة الفساد التي وقع ضحيتها مالك، حسب قانون الأقوى والضعيف، تم الإقرار بأن مالك أبا الوفا هو الموظف الأنسب لتحمّل القضية التي كان شريكا بالفتات فيها لا أكثر، وللأسف أصبحت مسؤوليته وحده، ما دفعه للدخول في دوامة من الهستيريا والصراخ إلى درجة خروج الزبد من فمه، وحالته دفعته ليصبح رجلا هائما في شوارع المدينة، إلى أن وصل إلى سوق البسطة، على الرغم من محاولات والده وزوجته غير المجدية لعودته إلى منزله.
وردة والملك
من شخصيات الرواية أيضاً التي تسير بالحدث وتعيش لحظته غير عابئة بالمستقبل، شخصية وردة، وهي من أكثر فتيات فندق الرحاب الخاص انسجاما مع مهنتها، رغم أن جمالها محدود ولحم جسدها وافر أكثر من اللزوم، واسمها الحقيقي هناء، احترفت الدعارة عن سابق إصرار وتصميم وخاصة أنها نشأت في منزل تسود فيه سياسة غض النظر سواء من زوج أمها لمن يزور الأم حاملا ملابس ومواد تموينية، أو غض النظر من الأم لزوجها في ملاطفته لصديقاتها، حتى إن هناء لم تستهجن نظرات زوج الأم لجسدها، لكنها اختارت أن تنطلق خارج المنزل وتخوض مغامرات تجدي مالا، الأمر الذي مكنّها من أن تكون ركنا ثابتا في الفندق، كيف لا وهي عشق متعة «الملك»، هذا الأخير هو الضابط أبو غسان، وأحب أيام الشهر إليه هي أيام المناوبة الثمانية، لأنه خلالها يحصل خلال تجواله في أرض السوق، على المتعة التي لا تضاهيها متعة في الحياة وهي «السلطة».
الكتاب على البسطة
حال الدنيا ينقلب ويتغير، فمزاحمة التطور والتكنولوجيا تحارب الكتاب إلى جانب ما يعانيه حرّاسه من كتّاب وناشرين وبائعين ومثقفين، للظروف التي تمنعهم من مزوالة أعمالهم، بل وحتى تجبرهم على استبدالها، هذا ما سلّط عليه الضوء الروائي كوكش، في شخصية عبد الغني الشاعر، الذي خسر مكتبته نتيجة الهدم واستبدلها بقارعة الطريق كي يفرش عليها كتبه العزيزة في سوق البسطة، إضافة إلى ما يواجهه من الضابط أبو غسان أو الملقب بالملك من تهكم واستفزاز وانتقادات ليست بمحلها ولكنها مدفوعة من غرور السلطة.
بداية النهاية
الشرارات النارية التي اشتعلت في اتجاهات متعددة من دكاكين سوق البسطة، مكنّت أذرع اللهب من معانقة بعضها لبعضها الآخر كي تلتهم كل ما هو أمامها من دكاكين مصنوعة بمواد مؤقتة، الأصوات داخل كتل النار تحولت إلى عويل، وأصبح من الصعب التمييز بينها إن كانت لمشتعلين أم هاربين، وكانت غادرت النار بعدما لم يتبق على أرض سوق البسطة، شيء تقتاته.