الحكواتي حافظة شعبية ووسيلة ثقافية … ينشط دور الحكواتي في مواجهة الغزو الخارجي.. وتظهر خوارق البطولات
| منير كيال
عرف الحكواتي بما كان يحكي لمستمعيه من السير والقصص الشعبية، التي تناقلتها الأجيال، ما يجعل المستمع مشدوداً إلى ما يرويه الحكواتي، وكان من هذه القصص أو السير ما اقتصر تداوله، على نطاق محدود من المتابعين للحكواتي، على ما تضمنته هذه القصص من المواضيع المسلية، والوقائع المبهرة، والأحداث المشوقة المطعمة بالطرفة.. ومن ذلك سيرة علي الزيبق المصري، وسيرة دليلة المحتالة، وقصص ألف ليلة وليلة.
أما ما كان من السير التي شدت اهتمام الكثرة الكثيرة من متابعي الحكواتي فهي سيرة عنترة العبسي، وسيرة الملك الظاهر وسيرة الملك سيف بن ذي يزن.
تحكي سيرة عنترة أحداثاً في شبه جزيرة العرب، وما جاورها حتى عهد النبوة أي على مدى «500» سنة وهي تصور ثأرات القبائل العربية قبل الإسلام، وعاداتها وتقاليدها فضلاً عما تقدم هذه السير من بطولات عنترة وأخلاقه وعلاقته مع قبيلته، ومع عزاله، ما يجعل لهذه السيرة الإقبال الكبير.
السيرة والعبرة
أما سيرة الملك الظاهر بيبرس فكانت محببة إلى جمهور كبير من رواد الحكواتي، وهي تتقصى أخبار الملك الظاهر بيبرس، وتجعل من ذلك محوراً للأحداث المتعلقة بالدولة الأيوبية، ودورها في توحيد الصفوف للوقوف في وجه الغزو الخارجي لبلاد العرب، كما تتحدث هذه السيرة عن الفساد الداخلي في المجتمع، وتتوسع في إيراد أخبار الملك الصالح أيوب، الذي استقدم الملك الظاهر بيبرس.. وما إلى ذلك من الوقائع والأحداث التي تزدحم بالأحداث..
وبالتالي فإن سيرة الملك سيف بن ذي يزن، فإنها ترسم الوحدة العربية ممثلة بالبطل العربي اليمني الملك سيف الذي حارب الأحباش لتحرير اليمن. ولعل من الجدير بالذكر أن نشوء هذه السيرة يعود إلى القرن الخامس عشر للميلاد، رغم أن أحداثها تعود إلى ما قبل الإسلام، ولم يصبح الحكواتي على ما هو عليه حتى أواسط القرن المنصرم (العشرين) إلا بعد أن مر بمراحل كان يطلق عليه بها اسم القصاص الشعبي، أكان ذلك في عصر صدر الإسلام أو بالعهد الأموي، وكان دوره أن ينقل للناس الذين يتابعونه صوّر المغازي والفتوحات بأروع حلة وأبدع تصور، الأمر الذي يتوافق مع الطباع العربية التي تقدم الأخلاق الحميدة والفضائل على كل اعتبار. وكان مركز نشاط هذا القصاص في تلك الفترة في صحن المسجد أو الجامع عقب كل صلاة، ولما كثرت الأقاويل بشأنه.. أخذ يمارس نشاطه بما يرويه بالساحات العامة التي يتجمع بها الناس، للاستماع إلى أخبار الأبطال والفاتحين، ونوادر السلف، وغير ذلك من الأمور التي تثير اهتمام الناس.
كان القصاص (الحكواتي) فيما يرويه يلْبَس لبوس الحدث وشخوصه بكل ما لهذه الكلمة من معنى فقد كان يتحدث عنهم وكأنه منهم، فضلاً عن ذلك فقد كان هذا القصاص يقوم خلال ما يرويه بالحركات الموقوتة والمؤثرات الصوتية بالحركة اللازمة (لخلق) الجو المناسب، والتأثير الذي يريد ليضمن حسن التلقي والإقناع. فكان ينقل بصوته مواقف الوعيد والزجر والغضب، ويحكي بنبراته مشاعر الفوز والنصر بل أيضاً الغزل.. حتى لكأنه يقوم مقام فرقة مسرحية، حركة وصوتاً وتعبيراً.
القصاص والحافظة
فالقصاص الشعبي أو الحكواتي والحال هذه بمنزلة حافظة شعبية لتلك السير والملاحم، ومهندس لعواطف مستمعيه وفق مقتضيات وأحداث السيرة ومصائر أبطالها وشخوصها.
وهو في ذلك يركز على بث مكارم الأخلاق، والسمات العربية في جمهوره، من محبة وكرم وحمية ومروءة وحفظ للذمم ورعاية للجار، إلى آخر ما هنالك من المكارم المتأصلة بإنساننا العربي، مما ينسبه الحكواتي إلى أبطال السيرة، الذين يحالفهم الحظ على مناوئيهم الذين يتصفون بالكذب والبخل والخيانة والغدر والرياء والخديعة والنكث بالعهد، وغير ذلك من المفاسد التي يتصف بها الأشرار.. ويحرص الناس على النأي عنها، ويستقبحون أي سلوك من هذا القبيل.
وكان الجمهور يسمع ويرى ويتفاعل مع ما يقدمه الحكواتي بالتصفيق تارة، وبكلمات الإطراء تارة أخرى، والتعاطف مع أبطال السيرة في أحيان كثيرة، حتى لكأنهم يعيشون مصائر الأبطال في السيرة.
وكان الناس في اختيارهم للحكواتي، يتخيرون الحكواتي الذي تتوافق براعته مع سرعة بديهته وأسلوبه بالإلقاء والتعبير، وتصعيد حبكة الأحداث وحلها، مع تطلعاتهم ومزاجهم وهم (الجمهور) في جلوسهم بالمقهى للاستماع إلى الحكواتي وينقسمون بين مؤيد للبطل مناصر له، ومخالف لذلك الموقف.
وقد يبلغ بهم الحماس إلى ملاسنة بل عراك بين الجانبين وكان الحكواتي يستغل هذه الظاهرة فيصعد الأحداث بالسيرة إلى أن يقف عند عقدة يكون فيها البطل في مأزق أو كربة، على أمل اللقاء بهم في اليوم التالي ليروي لجمهوره ما آل إليه البطل، فيهتاجون مطالبين الحكواتي بالاستمرار وتخليص البطل مما هو فيه، وقد حدث أن أحدهم أتى إلى بيت الحكواتي طالباً ومتوعداً من أجل تخليص البطل مما هو فيه، لينام مرتاحاً.
وفي واقعة عرس عنترة في السيرة، شاهدت بأم عيني، ما قام به أنصار عنترة من تزيين للمقهى احتفالاً بهذا العرس، ومشاركة للبطل بهذه الفرحة.
المقهى والثقافة
وإذا كان من المألوف أن نجد الحكواتي في أغلب مقاهي مدينة دمشق، أو على الأقل بمقهى من كل حي بدمشق، حتى أواخر العقد الرابع من القرن العشرين، فقد كان هذا الحكواتي معروفاً في البلاد العربية، وأخذ في كل منها صورة متشابهة مع اختلافات بسيطة، فقد كان الحكواتي بالقطر المصري يعمل بمصاحبة العزف على الربابة، وفي تونس كان الحكواتي يجلس على منصة عالية ومعه عصا طويلة يرد بها على المتخاصمين والمتناحرين حول مصير بطل السيرة، وكذلك ليحول دون اقتتالهم، وليدافع عن نفسه بتلك العصا حين تقتضي وقائع السيرة أن ينتصر بطل على بطل.
وكان الحكواتي كما شاهدته في مطلع العقد السادس من القرن العشرين في مقهى بمدينة اللاذقية، بالقرب من ساحة الشيخ ضاهر يتجول بين الحضور وهو يروي السيرة، وبيده خيزرانة يلوح بها هنا وهناك حسبما تقتضيه أحداث السيرة، وكان يحكي أحداث السيرة متجولاً بين الحضور بأسلوب المحاكاة والتقليد والتجسيد. فيعطي كل شخصية في السيرة صوتاً وهيئة وحركة ونبرة خطاب.
وفيما أذكر أن الحكواتي بدمشق، كان يتخذ مكانه في صدر المقهى على مدّة مجللة بالسجاد، ومزينة بأصص نبات ورق الصالون، وهو يقص على رواده السيرة التي تميز بها، ذلك أن الحكواتي غالباً ما ينفرد برواية سيرة لا يتعداها إلى سيرة أخرى.. وكذلك كنت ترى الرواد يفدون إلى المقهى الذي يروي به الحكواتي السيرة ولو كان ذلك يستدعي الانتقال من حي إلى آخر لسماع هذه السيرة أو تلك من حكواتي تميز بها.
وبعد.. إذاً استطاع الحكواتي حتى عهد ليس بالبعيد أن يعبر عن البطولات وينأى عن اللاأخلاقيات ويحض على الأخلاق، ويضرب الأمثال، ويسرد الحكم والأشعار والأزجال. وأن يكون مصدراً مهماً من الثقافة الشعبية، بين أناس لا يقرؤون ولا يكتبون.. فقد أصبح في هذه الأيام ونحن في مطلع الألفية الثالثة من نشوة الماضي، فرحم الله أيام زمان.