قضايا وآراء

ما الحب إلا للحبيب الأولِ

| عبد المنعم علي عيسى

جهد المحور السعودي التركي الإسرائيلي، على ألا يحين موعد انعقاد «أستانا 4» في 2 أيار الحالي، إلا وقد شهد الميدان حدوث متغيرات مهمة كان العمل جارياً على إحداثها كتعويض لا غنى عنه بعد خسارة حلب في 22 كانون الأول الماضي، ولأن التعويض يجب أن يكون متمتعاً بالثقل نفسه، فقد اختيرت دمشق التي جرت عدة محاولات لاختراقها على مدار أربعة أسابيع سابقة انطلاقاً من حيي جوبر والقابون، اللذين اعتبرهما «المخطط» خواصر رخوة للعاصمة السورية.
من المؤكد أن ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كان قد طلب «مباركة» مسعاه ذاك في خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن مطلع آذار الماضي ولقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، والراجح أيضاً أن هذا الأخير قد أعطى لابن سلمان ما طلبه «بما فيه أن يصبح مليكاً على العرش السعودي» إلا أن النتائج الكارثية التي حلت بتلك الخطة كانت قد تزامنت مع قرع العاصمة الكازاخستانية لأجراس أستانا في جزئها الرابع، الأمر الذي أرخى بظلاله الثقيلة على الأداء الذي سلكه وفد المعارضة السورية، «كأن على رؤوسهم الطير» لحظة توقيع «اتفاق مناطق تخفيف التصعيد» بين الروس والإيرانيين والأتراك في 4 أيار الحالي، فجاء التعليق بأن هذا الأخير ضبابي وغير مشروع، والغريب أن ست سنوات كأنها لم تكن كافية لفهم مصطلحات دارجة أو فهم اختلافها من مكان إلى آخر، فالمشروعية في حالتنا السورية الراهنة تنبع فقط من القوة والمصلحة، وهذه الأخيرة لا تشمل المصالح السورية وإنما تقتصر على الدول الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة السورية، وفي هذا السياق يمكن القول: لمجرد انعقاد مؤتمر الأستانا وبغض النظر عن النتائج التي يمكن أن يفضي إليها، فإن المبادرة لا تزال بيد المحور الروسي الإيراني السوري، فأستانا في نهاية الأمر وليد روسي ومن شأن نموه وتطوره أن يقرأ على أن ثمة تفويضاً دولياً لموسكو يترك لها حيزاً كبيراً فيما يخص الأفكار التي يمكن أن تطرحها للوصول إلى تسوية سياسية مفترضة للأزمة السورية.
انعقد «أستانا 4» فيما كانت الأحداث الضاغطة على جدول أعماله تنحصر في حدثين رئيسيين الأول: الاقتتال الدائر بين ميليشيا «جيش الإسلام» الوهابي، من جهة، وتنظيم جبهة النصرة القاعدية وميليشيا «فيلق الرحمن» الإخواني في الغوطة الشرقية، ما يشير إلى حالة اقتتال إقليمية فرضت نفسها، ولا صحة للأسباب التي قيل إنها تكمن وراء ذلك الصراع الذي نجم، كما أشيع انطلاقاً من الخلاف على مراكز النفوذ، والثاني: الأثمان التي قدمتها موسكو لأنقرة عشية لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوتشي 2 أيار الحالي التي بدأت خيوطها بالتكشف سريعاً ولم يطل الوقت لكي تعلن كل من موسكو وأنقرة عن تأييدهما لفكرة الزج بخمسة آلاف مقاتل من «الجيش الحر» في معركة الرقة في 7 أيار الجاري مقابل قبول أردوغان بفكرة المناطق المنخفضة التصعيد التي كانت موسكو قد اعتمدتها لتصبح الدينمو المحرك لـ«استانا 4» الذي انعقد بعد ساعات من لقاء الرئيسين الروسي والتركي.
ما تسرب عن خواص المناطق السابقة الذكر شحيح وهو بالكاد يعطي تعريفاً عاماً لها وليس أكثر، إلا أنه من الضروري القول إن تلك المناطق أياً تكن خواصها يمكن لها أن تكون ذات تداعيات إيجابية وهي نفسها وفق ذات خواصها السابقة يمكن أن تكون لها تداعيات غاية في السلبية، بينما الأمر الحاسم هنا يتأتى عبر «النيات المضمرة» التي تتحرك بها القوى الضامنة للاتفاق وإذا ما صدقت هذه الأخيرة أمكن أن تلعب تلك المناطق فعلا دور الملاذات الآمنة للهاربين من سطوة الإرهاب وفي حال العكس قد تصبح تلك المناطق أشبه ما تكون بخواصر نازفة للدولة السورية، وما سبق ليس تشكيكا بالنيات الروسية المضمرة أو الإيرانية إلا أن «اللحظة السورية الراهنة» تمر بمرحلة غاية في الدقة والحساسية ومع ذلك فقد جاءت الخيارات لكي يكون المسار الذي ستسير عليه التسوية السورية أشبه بمن يسير على «شعرة» حتى إذا اختل توازنه بفعل عوامل لا تعد ولا تحصى كانت الوديان بانتظاره على طرفي خط الشعرة، اللحظة الدقيقة والحساسة هنا تتأتى من كونها لحظة ترقب وانتظار إلى أن يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض وهو ما سيحدث في أعقاب زيارة ترامب للرياض 23 أيار الجاري والتي قال عنها هذا الأخير إنها ستكون المحطة التي «سنؤسس فيها لتحالف قوي في مواجهة الإرهاب وإيران» بينما النيات تتجه لتأسيس تحالف عربي سني قادر على مواجهة إيران بدعم وقيادة إسرائيليين، ومن الواضح أن أنقرة مهمشة في ذاك التحالف الأمر الذي يفسر اندفاعها نحو تصعيد جديد مع الولايات المتحدة ليصل ذروة لم يكن قد وصلها من ذي قبل حيث أعلن كبير مستشاري الرئيس التركي تينور شيفيك في 5 شباط الماضي «أن على واشنطن أن تتوقع إمكان توجيه ضربة تركية للوجود الأميركي في الشمال السوري إذا ما حسمنا أمرنا بالقضاء على الوحدات الكردية وحزب العمل الكردستاني» ومن الواضح هنا أن أنقرة تعتبر عملية استثنائها من التحالف الجديد مضافاً إليها تزايد الدعم الأميركي المقدم للأكراد السوريين من شأنه أن ينتج حالة من الصعب على أنقرة تحملها أو التعايش معها ولربما كان الرهان الروسي كبيراً بل فوق ما تحتمله الحقائق في إمكان اندفاع العلاقة الأميركية التركية إلى مزيد من التباعد أو التصعيد ولربما من الجائز القول إن ذلك الرهان يملك الكثير من الحظوظ في ظل سير المصالح الأميركية والتركية في خطين متباعدين راهنا، إلا أن ذلك الرهان مرحلي أو مؤقت ولا يمكن البناء عليه بالتأكيد إذ لطالما أثبتت العلاقة الأميركية التركية متانتها ومرونتها في آن كما أثبتت قدرتها على التجدد بعد نفض غبار الماضي وفي الاستقراء فإن طيف الاختلاف القائم بين واشنطن وأنقرة مهما اتسع أو مهما بدا عميقا فإنه يظل واهياً وأنقرة تكفيها في لحظة من اللحظات «غمزة» أميركية واحدة لكي ترمي بكل شيء بما فيه ما تراكم في مراحل الخصومة وراء ظهرها لأن ذاك التراكم لم يكن أساساً سوى محاولات لإثارة غيرة «الحبيب» الأميركي ولربما كانت واشنطن تدرك جيداً أن القاعدة الأهم في تعاطي أنقرة معها تقوم على قاعدة أن الحب لن يكون «إلا للحبيب الأول»، ومن هنا نرى حالة التسامح الأميركي الذي يقضي بحرية الانتقال «لأنقرة» كما شاءت وشاء لها الهوى.
وإذا ما عدنا إلى التحالف السابق الذكر والتوكيلات الأميركية التي حصلت عليها السعودية مؤخراً والتي عرض لها بوضوح ابن سلمان في اللقاء الذي بثته قناة العربية في 2 أيار الحالي، يتأكد لدينا صعوبة المرحلة المقبلة وخطورتها، فالمليك السعودي المرتقب قال إنه لن ينتظر لكي تأتي الحرب إلى دياره وهو سيعمل على نقلها إلى الداخل الإيراني وعندما عرض للخلاف الإيراني السعودي وصف هذا الأخير بالخلاف الايديولوجي في محاولة لإظهار عمقه أو الحكم عليه بأنه لا يملك خطا للرجعة، الأمر الذي يمثل رسالة سعودية تعلن فيها الرياض عن استعدادها التام للمهام الأميركية الموكلة إليها فمحاولة إعطاء الخلاف بعدا أيديولوجيا وتاريخيا وعلى الرغم من أن القائم بالفعل يبدو بضحالة معرفية بارزة أو أنه يعتمد في بناء معارفه على ما يسمعه من هذا وذاك بدلا من عناء البحث والتقصي في المراجع المختصة على الرغم من ذلك فإن المحاولة سوف تصل إلى مراميها المرجوة منها بالتأكيد، إذ لطالما كان الشارع في حالات كهذه يصيخ السمع فقط لما يخرج عن تحالف «الفقه والسلطة»، وفي هذه الحال فإن ما خرج به ابن سلمان سيلعب هنا دور الحقيقة التاريخية، حتى إذا ما اتضح خطلها كانت المرامي المرجوة قد استقرت في الجيب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن