من دفتر الوطن

شكراً حلب

| حسن م. يوسف 

أبصرت النور في قرية قصية تحيط بها الجبال من كل الجهات، ولعل أقدم شوق عرفته روحي هو الطيران لرؤية ما خلف الأفق، وقد كبر هذا الشوق معي فعزمت، لسنوات طويلة، أن أسمي ابني «سفر». لكنني عندما سافرت إلى الهند ووقفت أمام تمثال المهاتما غاندي قررت أن أسمي ابني بآخر كلمة نطق بها ذلك النبي صاحب الروح العظيمة: رام.
غير أنني رغم ذلك ازددت عشقاً للسفر، كما تضاعف إحساسي بأهميته لقناعتي بأن من لم يرَ سوى بلده أشبه بشخص لم يرَ طوال حياته سوى والديه. فللسفر فوائد لا تحصى أهمها برأيي هو ما أشار إليه أستاذي الكاتب الساخر مارك توين: «السفر يقهر التحيز والتعصب وضيق الأفق».
في السفر كانت روحي ولا تزال تسبقني دائماً، لكن الأمر كان مختلفاً في رحلتي الأخيرة إلى حلب عن طريق إثريا خناصر، إذ كنت متوتراً لفرط خشيتي من مواجهة جراح المدينة التي أحب. لكن حلب كانت كريمة معي كعهدي بها دائماً، فما إن وصلنا إلى مشارف المدينة حتى رأيت في الطابق الرابع من بناء يقع على يمين الطريق رجلاً في ثياب عادية يعمر جداراً مهدماً من بيته، وهو يتناول (بلوكة) من امرأة على رأسها إيشارب. استدرت بكليتي وتابعت المشهد حتى غاب عني، والحق أن الرسالة التي وصلتني من خلال ذلك الرجل وزوجته وهما يعيدان بناء ما تهدم من بيتهما قد أبهجتني لدرجة جعلت الدموع تطفر من عيني.
المدن بالنسبة لي هي من أحبهم فيها، وقد سرقت الحرب التي تشنها الفاشية العالمية بالتحالف مع الفاشية المحلية، على سورية الكثير من أصدقائي الحلبيين، بعضهم خطفهم الموت، وبعض آخر خطفوا أنفسهم لموت من نوع آخر، لكن حلب الكريمة النبيلة خبأت لي ثلة من خيرة بناتها وأبنائها.
قبل يومين من بدء رحلتي إلى حلب كنت قد حجزت غرفة في أحد فنادقها البسيطة، لكنني في الطريق تلقيت مكالمة عاتبة من الصديقين الرائعين أمان أبو دان وزوجها صلاح برو، هدداني خلالها بالطلاق إن توجهت إلى الفندق!
كان الهدف من زيارتي لحلب هو جمع المزيد من التفاصيل عن حياة المطران المقاوم الحاضر أبداً مطران القدس في المنفى إيلاريون كبوجي، لأنني كلفت من الهيئة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي كتابة مسلسل من ثلاثين حلقة عن حياته، وقد استقبلني في محطة الوصول ابن أخيه الدمث رياض كبوجي وأكرمني بأن جمع لي كل أفراد أسرته في جلسة بوح حميم أنارت روحي وأغنت بحثي.
اليوم التالي خصصناه لحلب، فبعد أن تناولنا غداء شهياً في واحد من أعرق مطاعم حي العزيزية انطلقنا، أمان وصلاح وأنا، إلى الحميدية، مروراً بأقيول، باب الحديد، جب القبة، قصر العدل، القلعة، الجامع الأموي، السبع بحرات، جادة الخندق، ثم ساحة سعد اللـه الجابري.
أكثر ما استوقفني خلال الجولة امتداح صلاح لأداء محافظ حلب، وقد أدهشني ذلك، لأنني طوال معرفتي به لم يسبق أن سمعته يمتدح شخصاً في الإدارة.
كانت القلعة عامرة متحدية كعهدي بها، رغم ما يحيط بها من خراب! وكان كل شيء في حلب يذكرني بقول ابن حلب الشاعر والباحث الأكاديمي د. عبد الرحمن دركزللي:
لله درك يا حلب/ لا ينقضي منك العجب/ يا درة الشرق القديم/ وسفر أمجاد العرب/ فيك الحضارة أزهرت/ وبظلك ازدهر الأدب/ لو قيل للفن انتسب/ لأجاب إني من حلب/ منك الشعوب تلقنت/ وتعلمت عشق الطرب/ من للتراث يصونه/ إن غاب نجمك أو غرب/ من رام قهرك غازياً/ ذاق المنية أو هرب.
شكراً لحلب التي غمرتني بلطفها وعابق عطرها كسابق عهدي بها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن