من دفتر الوطن

الموت جزئياً

| حسن م. يوسف

أحسب أن الحزن هو القاسم المشترك بين جميع السوريين على اختلاف آرائهم وميولهم، فكثير من الناس فقدوا بيوتهم وأملاكهم، ومن لم يفقدوا بيوتهم وأملاكهم فقدوا ما هو أعز منها، فالبيت الذي ليس فيه شهيد فيه جريح والبيت الذي ليس فيه شهيد ولا جريج فيه مخطوف أو نازح أو مهاجر!
لكل ما سبق لم أنشر نعية أخي الأصغر والأحب إلى قلبي منير في الصحف، رغم أن بضعة من قلبي قد ماتت معه، فهو لم يستشهد على الجبهات، بل توفي عقب عملية جراحية، وثمة شباب بعمر الورود يستشهدون على الجبهات ويغادرون الحياة بصمت دفاعاً عنا دون أن يكتب عنهم أحد.
لكن المصائب تأبي أن تأتي فرادى، فقد اخترق قلبي سيخ من نار عندما علمت قبل لحظات من الشروع في كتابة هذه الكلمات أن ابن أخي المساعد أول سعيد يوسف قد غادر الدنيا ملتحقاً بأعمامه الأربعة.
ليس الألم مجرد ضيف طارئ على قلبي، بل هو مقيم متأصل فيه، ولعل حصته منه أكبر من حصة بقية المشاعر مجتمعة!
أشعر بالخجل من نفسي لأنني لا أعرف عن ابن أخي سعيد سوى معلومات عامة، ولا تحضرني عنه سوى ذكريات سريعة متباعدة، إذ لم تتح لنا الكثير من فرص اللقاء بسبب فارق العمر وبعد المسافة.
في آخر لقاء لنا قبل نحو أسبوعين، لمعت عيناه بضوء غريب عندما أخبرني أنه يحضر نفسه للزواج، وها هما عيناه المشعتان تملأان رأسي، وفي قلبي حسرة أليمة لأننا فقدنا ذلك الشاب الجميل قبل أن نفرح به.
خلال مواسم الموت التي لم تتوقف منذ بدء الحرب الفاشية التي يشنها الغرب المتوحش على سوريتنا الحبيبة، من الطبيعي أن يفكر المرء بالموت كل يوم، لأنه أقرب إلينا من حبل الوريد. وقد فكرت بالموت كثيراً فوجدت أن موت الإنسان يبدأ جزئياً قبل أن يولد، ولا يكف لحظة واحدة عن الحدوث طوال حياته إلى أن تحين لحظة موته الكلي. فحياة الإنسان هي منظومات متزامنة ومتواصلة من الميتات والحيوات الصغيرة التي لا تكف عن التفاعل منذ بدء نشوئه، فجسم الإنسان ينتج ملايين الخلايا في كل يوم، وفي كل يوم تموت فيه ملايين الخلايا. وهذا يعني أن جزءاً منا يموت في كل لحظة نحياها. وهكذا يتراكم الموت في حياة الإنسان حتى تمتلئ به وتصبح جزءاً منه. وهذا السياق لم ولن ينجو منه أحد، فأطول الناس عمرا مات في النهاية! ويحكى أن ملاك الموت جاء نوحاً عليه السلام ليتوفاه بعد أكثر من ألف سنة عاشها قبل الطوفان وبعده فسأله: «يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟» فقال: «كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر».
عندما توفي الشاعر رياض الصالح الحسين قبل خمسة وثلاثين عاماً كتبت عنه مقالاً قلت فيه، عندما يموت شخص ما نحبه يموت جزء منا معه ويبقى جزء منه حياً فينا. وقد ماتت أجزاء كثيرة مني مع من أحببتهم. وازدحمت حياتي بأجزاء ممن فقدتهم حتى لم تعد تتسع المزيد!
في الختام يحضرني قول أشبه بأمنية لشاعر تشيلي الكبير بابلو نيرودا:
«إن كان لا شيء سيُنقذنا من الموت، فليُنقذنا الحُب من الحياة على الأقل».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن