ثقافة وفن

كلّ قطعة في المتحف لها حكاية وتاريخ…هيثم طبّاخة لـ«الوطن»: جمعت المقتنيات الدمشقيّة الأصيلة مستعيداً ذكريات الناس وتاريخهم

 عامر فؤاد عامر- «تصوير: طارق السعدوني» : 

متحفٌ يحتوي الكثير من المقتنيات التراثيّة، التي تحمل قيمة زمنيّة؛ جاءت من انقضاء سنوات عمر الإنسان الذي قطن البيئة والمكان، فاستخدم هذه الأدوات تكراراً؛ لتكون أدواته في التعامل مع ضرورات الحياة اليوميّة، إلا أن الوقت الطويل وتطور الإنسان في فكره وسعيه نحو إيقاع الحياة الذي نَسِمُهُ دائماً بالسرعة، جعل من الإنسان يهمل هذه الأدوات، ويلتقط غيرها، أو يستبدلها بأشياء أكثر حداثة، أو أسهل في التعاطي، والاستخدام، وفي هذا المتحف حنينٌ لكلّ ذلك ففي الاتجاهات كافة ستجد أدوات، وأواني، وصوراً، ولوحاتٍ، وأيقوناتٍ، وتماثيلَ، وعملاتٍ، وأشياءً كثيرةً لا يسعنا حتى ذكرها في هذا المقال، فمنها ما هو معلّق على الجدران، ومنها ما هو متكئ على بعضه بعضاً، أو على الأرضيّات، ومنها ما نزل من السقف، أو استقر على سطح الخزائن، التي عجّت بالأحجام الكبيرة، والصغيرة، والتي تحمل دلالاتٍ زمنيّةٍ، ومكانيّةٍ، وتراثيّة، ومن رائحة الأجداد، والقدماء من أهلنا الذين سكنوا هنا.

تعريف ودعوة
«هيثم طبّاخة» صاحب المبادرة والفكرة في حماية هذه المقتنيات، أو كما أطلق عليها هو الأنتيكا. جمعها باعتزازٍ، وافتخارٍ باد على وجهه، ونشرها منذ ما يقارب السنوات الخمس، في بيتٍ دمشقيٍّ قديم في سوق القنوات المجاور لأحد فروع نهر بردى، بداية مدخل الطريق المرصوف بالحجارة السوداء القديمة، فكان مكاناً يتناسب مع المشروع، ويتناغم مع لغةٍ قديمةٍ حديثة، تجعل من الزائر أكثر رغبةً في التأمل، واستلهام أفكار مما يراه في مشهدٍ عتيقٍ، لكنه يحمل بريقاً ساحراً، وفي هذا السياق يقول «هيثم طباخة»: «أنا ابن الشام، وأهوى جمع التراث القديم، الذي من خلاله أستعيد ذكريات الناس والتاريخ، فهذا تراثٌ دمشقيّ سوريّ، وأتمنى من كلّ شخص في بلدي أن يحافظ على تراث وطننا الجميل، فهو لا يستحق الإهمال منا، وهو متحفٌ خاصٌّ بالأنتيكا، وسأعمل على نقل هذا المتحف لبيت عربي أوسع من هذا، وسأضع اسماً جديداً له هو «البيت التراثي الدمشقي» وسيكون مقابلاً لبيت «فخري البارودي» في منطقة القنوات، واليوم اسمي هذا المكان مضافة؛ يأتي إليها الكثير من الزوار، والأصدقاء، ومن المعارف في كلّ يوم سبت، فترى الفنانين، والباحثين، والضباط، وغيرهم مجتمعين هنا، وقد وضعت دفتراً لتدوين الملاحظات، والذكريات من الزائرين، وأتمنى من القائمين في شؤون وزارات السياحة، والثقافة، والإعلام، أن يتفضّلوا بزيارتنا، فأنا أوجّه الدعوة إليهم، من خلال صحيفة الوطن، ليأتوا، ويتفرجوا على هذا الجهد الخاصّ، فكلّ قطعة لها حكايتها وتاريخها».

مجموعات وأدوات تتكامل
يحاول «هيثم طبّاخة» تقسيم مقتنياته الكثيرة؛ كي تكون منظمة مع مرور الوقت، فقد كان في دمشق الكثير من المهن التي تتميز بأدواتها الخاصّة، وفي طريقة عملها، والتي انقرض قسمٌ كبيرٌ منها، واليوم يسعى «طباخة» لجمع أدوات هذه المهن على الرغم من صعوبة إتمام المجموعة كاملةً، إلا أنه ومع مرور الوقت، وانتشار الأخبار حول هذه الهواية، بدأت المقتنيات تتقاطر إلى المكان بين حينٍ وآخر، وبذلك يمكن أن تكتمل هذه المجموعات التي يقسّمها، ويقول حول ذلك: «في كار النجارة مثلاً، أحاول جمع كلّ الأغراض التي كان يستخدمها النجّار، وسأسعى لتكون كاملةً مع مرور الوقت، وكذلك أدوات كار الحلاقة، أو بائع الفول، حتى أحافظ على هذا التراث الذي سيكون بصورةٍ أو بأخرى، مكاناً جماليّاً وتاريخيّاً لسورية، وينقصني اليوم مهنٌ باتت منقرضة من حياتنا، كمهنة المجلّخ الذي لم أستطع حتى اليوم العثور على الدولاب الذي كان يستخدمه أثناء العمل، وكذلك صندوق الفرجة، وكاميرا التصوير الخشبيّة التي كانت تتموضع أمام الدوائر الرسمية لتصوير الناس صوراً شخصيّة تتطلبها أوراقهم الرسميّة، وبعض الأدوات الأخرى».

اختلاط الزمن وعدم التوثيق
اجتمعت منحوتاتٌ خشبيّة، وقطعٌ معدنيّة، وأدوات لمهن مختلفة، وصورٌ عتيقة، والكثير من الأشياء والتي توحي للمرء بأنّه ومع مرور الوقت يمكن أن يكون لهذا المشروع اتساع كبير ليمدّ عشرات المعارض لغناه وتعدد الأفكار التي ستغذيه، بسبب كثرة الأدوات التي كان يستخدمها المرء في كلّ مرحلة زمنيّة، ولكن ما ينقص المكان هو عدم الفصل الزمني بين كلّ هذه المحتويات، فالأغراض بحاجة لتوثيق، وحماية، بمعنى أن لكلّ غرضٍ في هذا المتحف عمراً زمنياً يحتاج للتوثيق، والشهادة، وهذا الموضوع لا يتمكن صاحب المتحف «هيثم طباخة» من التفرد لشغله، بل يحتاج لجهود وظيفيّة تتكفل بها إحدى وزارات الدولة، التي ترعى هذا الشأن بالصورة المناسبة واللائقة، وبالتالي يمكن للموضوع أن يأخذ حقّه بصورةٍ جديدةٍ، ومدعومةٍ، ليكون أكثر جمالاً، وبقاءً، وحفظاً.

ذاكرة تتناسب مع المشروع
تحتوي ذاكرة «هيثم طبّاخة» على الكثير من الأمثال الجميلة، التي ارتبطت بذاكرة أهل الشام، وأثناء الحديث معه سنجد الكثير منها، والتي يرويها، وهو يشير إلى أحد مقتنياته، بصورة يشرح فيها؛ كيف كانت الناس تتعامل مع تلك الأداة أو غيرها، فمثلاً في أدوات النجار القديمة، يطلق على إحدى أدواته اسم «المغراية»، والمثل القديم الخاصّ بها هو «اللي ما ذاق المغراية ما بيعرف شو الحكاية» والحكاية المروية له من خلال نجار كبير السنّ عن أحد الأشخاص الذي امتهن النجارة، ففي أثناء جمعه للصمغ من الشجر، وغليه لهذا الصمغ في المغراية، يتعرّض لهجومٍ من ضبع، وبسبب ارتعاب النجّار، وخوفه منه، حمل المغراية تلك، وطرش بها الضبع، لكنه بالمقابل حرق رجليه بهذا الصمغ أيضاً، فكان ذلك المثل بين الناس في تلك الفترة.

عملة نادرة
انتشرت مجموعة كبيرة من العملات بين أغراض المتحف، فجمعها «طباخة» بطريقةٍ فنيّةٍ؛ من خلال ألبومات، أو لصاقات، تحميها من الغبار، وتَعرضها للعين بطريقةٍ أفضل، وهناك عملات من أيام العثمانيين، وإلى الفرنسيين، وعملاتٍ منذ العام 1920 وفترة الاستقلال، وعملات لسورية ولبنان، وأيام الوحدة بين سورية، ومصر، وما بعدها، ويعرضها بشكلٍ متسلسل تبعاً للتاريخ الذي نُقش عليها، ويضيف: «سترى لديّ القرش، والنكلة، والفرنك، والقرشين ونصف المفرغ من قبله المصكوك عام 1940، والقروش الخمسة، في خمس مراحل زمنيّة، وعملات ورقيّة نادرة في عدّة طبعاتٍ متكررة».

تشكيلة نادرة
قطع كثيرة قديمة يشير «طبّاخة» إلى أنه يمتلكها، فهناك كيس «سيروم» فرنسي الصنع، كان يستخدمه الأطباء الفرنسيون سابقاً، ولديه سيف عمره قرابة المئتين وخمسين عاماً كما يقول، ولديه مفتاحٌ كبير الحجم كان يستخدم لأحد الأبواب السبعة الرئيسة لمدينة دمشق، وقوس المنجد الذي يحتوي على زخارف جميلة، وصورة لأوّل متخرجين في كليّتي الطبّ والصيدلة عام 1920 شبّان وشابات، وصورة لتجار البزوريّة من بينهم «توفيق قباني» والشاعر «نزار قباني»، وصور كثيرة قديمة تحمل رواياتٍ خاصّة بأهل الشام منذ سبعين عاماً وأكثر.

ترحيب دائم
استقبلنا وودعنا بابتسامته الوادعة، مرحباً بوجودنا وزيارتنا، وقد ارتدى اللباس الشامي التقليدي، وبعد انتهائه من جولة تعريفيّة طاف فيها بنا ضمن زوايا المتحف وغرفه المجاورة، حمل «هيثم طبّاخة» طبلة المسحراتي القديمة مع عصاه، ومثّل لنا هذا الدور كما كان في الماضي، منشداً واحدةً من الأناشيد التي انتشرت على لسان صاحب هذه المهنة التراثيّة المرتبطة بشهر رمضان الكريم وهي:
» صلوا على النبي صلوا على الهادي
يللي بنوره أشرق الوادي
راحت الغزالة تشتكي لمحمد
قالت يا محمد لا ماء ولا زادي»…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن