ثقافة وفن

شامات شام

| إسماعيل مروة

لا يطرب الحجر في غير شامنا.. حين يدلف القادم إلى أذان جماعي في الأموي، وحين يقبع يسمع أجراس الطريق المستقيم الممتد تاريخاً شامياً من الرومان إلى اليوم… كلهم ذهبوا وبقيت شام علامة الدهور… علامة العشق الدمشقي المعتّق في أرجاء الجسد المدينة الأسطورة.. تحب الشام.. أحبها القريب، عشقها الغريب، استأثر بها الدخيل، وكلهم انتهوا على حدود أسطورة شام، ليبقى العابد المنتمي إليها، وإن لم يكن قريباً.. بقي العابد الذي يرى شام فعلاً أمومياً خرافياً لا يدركه الهرم، لا تتهدل فيه المسامات، ولا تشيخ فيه الحجارة، العابد الذي يرقب الشامات المنثورة في كل مكان من شام الخلود والبقاء والافتداء… شام الرحمة والسماح، شام الحب والاحتواء.. وتركض شاماتها في كل زاوية وزاروب، في الأزقة، وفي الكهوف الخلفية، على كل مسام تنثر شام شاماتها، وتعلن احتواءها.
هنا مرّ لص ذات يوم، وضع صرته، وحاول أن يعبث بشامة فالتصقت بشفتيه وانطبعت فغادر ليؤدي صلواته الشامية، وبقيت شامة الطهر تحرسه وتعطيه نسغ حياة لصلاة شامية، لا تعرفها غير أرضها، ولآيات فيها نكهة الشام، وحب الأبد الذي لا يغادر أرضها وإن تكالب عليها اللصوص.
هنا حاول دخيل أن يحطّ رحله، أراد أن يصبغ شام بصبغته، فعافته ورفضته، وبكى على حجارتها مستجدياً كاذباً، فتركته طريداً مطارداً، يلوذ بكل ما يمكن أن يلوذ به، فبقي خارج سور حبها وودها، وعجز عن احتواء وإقناع، وبقي زبد ثرثرته على شفتيه القذرتين يلتصق ليظهر كذبه، وكان تابوته الذي سعد به من غير أرضها، ومن غير خشبها، وعاش غريباً حاقداً، لكنه لم يستطع أن ينال من طهر شام وألوهة لحظتها.
وتلتفت شام، النيران تحيط بها من كل جانب، وكل حاقد يتوعدها بأن تدور النار في جنباتها، وما إن تصل النار إلى أطراف شعراتها حتى تتوقف، لا تستطيع أن تنال أو تصل إلى جوهر النقاء الذي حمته الربوبية وحفظته، لتكون إشراقة شمس قاسيون أكثر صفاء وهي تتسلل إلى الصالحية والصالحين، وإلى الشيخ محيي الدين، وإلى ذي الكفل.. لتصبح أكثر سطوعاً وهي تنداح في الأزقة، فتدخل المعابد والكهوف والمغاور والنفوس.. وفي كل لحظة تزرع شامة من شاماتها، ولا ينقص من شاماتها شامة.
ترياق شام وغذاؤها لا ينضب، لا يتوقف، تجود لابنها ومحبها وعاشقها وعابدها، تعطيه وينهل، ووحدها لا تخاف أن يجف ما لديها ولا ينقص ترياقها، إنها تستحلب من ذاتها لتعطي من لاذ بها، ولتمنح من أحبها حقاً وصدقاً… كل المدائن تجوع، وشام تجود، كل الصفات تخف وتختفي، وصفات شام تبقى مزهرة ما دامت الحياة.
سبع سنوات، أكثر، أقل، قرون متطاولة وهم يراهنون على شام أن تحترق جدائلها، وأن يخف ترياقها، فلا الجدائل احترقت، ولا الترياق انتهى، وها هي الشام تتبختر وسط الرماد والخراب والدم والقتل، لا ينالها أذى، ولا يطولها عدو مهما بلغ، تمسح شاماتها، وتتقدم للغد، ترقب أعداءها، تعاتب أحبابها، وحين تتكاثر السهام السامة إلى شاماتها، تصطدم السهام بشاماتها وتعود إلى صدور خصومها.. جمعوا كل سلاح لاغتيال شام، وشام شامخة لا تلتفت إليهم يحميها عابدها وعاشقها، ومن أراد بالشام سوءاً يشتعل دفعة واحدة، ويتحول إلى كتلة من لهب، ما من شامة تحميه وما من ترياق يغذيه… الرسل جاؤوها فغدت رسولاً، والبدء كانت هي فكانت خالدة وخلوداً، الغراب دلّ على دفن الأخ، فكانت رحمة وستراً.. لشاماتك الخالدة الباقية يتردد النداء والغناء، بها نلوذ وإليها نترك الحَول والقوة، ومن ندائها نخرج من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن