ثقافة وفن

شام.. نحاس… دامسكو وبردى

| إسماعيل مروة

ها هي الشام تجلو محاسنها، تبرز حورية لا تشبه غيرها، غادة مغتنية بجمالها عن سواه، خرجت من البحر، من الرمل، وتربعت على قمة قاسيون، ناجت جنديها المجهول لغيرها، المعلوم بها ولها، ناجته وضمته، وأقسمت بخوذته بدمه، برأسه، بكل ما كان منه لأجلها، أقسمت بها أن تمنح من ماء زهرها، من عطرها، من ترياقها، من ريقها، من برداها، من حبات الملبس على جدار أمويها لكل عاشق انزرع على ترابها، يخرج المجهول، يتوضأ بدمع شام، وحين تمتد يده إلى الدمع لا يجد دمعاً، إنه بريق الشام في عينين لا تشبهان الأعين، الالتماع بحر من فيض حب وحنان وخوف افتقاد.. شام لا تهرم، لا تغيب، خوفها على جنديها المجهول الذي افتدى بقاءها، والذي رسم معالم خلودها.. المجهول الأبدي مذ خلقت الدنيا، يمتد في مؤق من جبل شيخ الشام، ليغذي شعيرات رؤيتها، المجهول الممتد في كل أسطورة شامية، من هابيلها وقابيلها إلى شاؤول الذي على حدود معلومها صار معلوماً وقديساً.
ومن مستقيمها خرج بولس الرسول ليقول: الهداية شامية، الحب شامي، الهوى شامي، تعمّد بمائها، عرف أن ماءها قدّاس العمادة، وعلى حدودها رسمت معالم المحمدية، منها أخذ الهداة هداياتهم، وعلى رؤاها تغيرات الرؤى، وصارت هدايات الضالين، الغاوين، وعلى مسافة من الشام صار الذي لا يمكن أن يصير..! لم يكشفوا كنه الشام، وعند كل زاوية يأتي من يختبرها لجهل منه، وعلى رصيفها يخسر رهانه، فتبقى الشام، ويغسل بردى كل الدم والأدران، ويعود الألق إلى شام، إلى ضفائرها وجدائلها الممتدة عشرة آلاف سنة، وتفرد ابتسامتها لعلها تكون هداية الضالين، قد يعودون إلى رشدهم وغواية الحياة الشامية.
كلهم جاؤوا إلى شام، على حدودها ارتسموا، وعلى حدودها بقوا، لم يسمعوا طرقات النحاس في سوق النحاسين، لم يلتهموا ليمونها الجامد عند جامعها المعلق، لم يعلقوا شمعاتهم المشتغلة عند العذراء ويسوع في طرقاتها الضيقة المفتوحة، لم يقرؤوا الفاتحة عند مقام النبي يحيى، لم يتمعنوا فسيفساء بيت المال في أمويها… كلهم تغنوا بالشام، لم يدخلوا إلى كنه بقائها وخلودها.. لم يقرؤوا مقام رأس الحسين في أمويها، لم يعرفوا رقية إلى جدار الأموي… لم يتمعنوا في قبقاب الأموي، ولم يقدروا وجوده قرب أمويها.
وحين حانت الساعة منذ سبع عجاف، سرقوا بيت المال ونسوا فسيفساء البيت الواقف عبر الزمان، وشربوا الشراب المستورد وأهملوا الليمون الجامد، استدعوا أسطوانات السمفونيات الغربية، ولم يعطوا أسماءهم وأسماعهم لطرقات النحاس، ولمبدعي نقوش النحاس في شام شامة الروح الباقية أبد الدهر.
منذ سبع عجاف لم يعرف الجهلة الغرباء الدخلاء أن العجاف ليست في الشام، وأن ضرع شام سيبقى يشخب غذاء وحباً حتى وإن تهيأ لهم أنها في العجاف… عجاف شام سمان غيرها، وخيرها يغمر الكون طوفان حب ورسالة لا تنتهي من حب وإنسان.
عند جنديها المجهول للكون، المعلوم لها تبدأ شام رسم الغد الجميل، ترقب ما تبقى وما تبقى كثير، وتبدأ من جديد، وتعطي إشارة البدء لرحلة جديدة تبدأ في سوق النحاسين، وتمتد إلى دامسكو شام، ليختم في بردى رحلة التعميد والتقديس في تطويب شام للطهر والنقاء، وموطن رسالة الحب والتجذر والافتداء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن