ثقافة وفن

هل تمثل فرصة حظ ثانية لحياة مستمرة؟ … العوامل الخارجية قد تنهي حياة إنسان وقد تدفعه لحياة جديدة

| إسماعيل مروة

أزمة منتصف العمر، قضية شائكة في حياتنا، نتداول حولها الكثير من الحكايا، ونستلهم التراث وأقواله، ونسرد الحكايات، وفي حياة ذكورية مختلفة، نجد أن أغلب الحكايا، وأكثر المعالجات تتناول المرأة، وتتحدث عن أزمة منتصف العمر عند المرأة، وما أكثر ما نسمع من أحاديث عن سن اليأس عند المرأة، وتحولت أزمة منتصف العمر إلى مشكلة المرأة وحدها، وكأن الرجل وحده لا يتعرض لهذه الأزمة، مع أن الحقائق تؤكد أن الرجل يقع ضحية أزمة منتصف العمر أكثر من المرأة بكثير، لكنه يغطي ذلك ببطولاته وجولاته الافتراضية! أزمة منتصف العمر أزمة إنسانية عند الإنسان بمفهومه الإنساني، سواء كان الإنسان رجلاً أم امرأة.. من هنا تأتي أهمية دراسة علمية طبية حملت عنوان «أزمة منتصف العمر» الذي كتبته فرانسواز ميليه بارتولي بالفرنسية، وترجمه ترجمة لائقة الأستاذ الدكتور غسان السيد، وصدر ضمن سلسلة الأدب العلمي عن جامعة دمشق، فماذا تقول هذه الدراسة؟ وماذا يمكن أن نتعلم منها؟

تقسيم الحياة
جاء الكتاب في سبعة فصول ونتيجة أو خاتمة، وعرّف المترجم الكتاب بقوله «يمثل الكتاب مرجعاً مهماً في مجال التحليل النفسي الخاص بمنتصف العمر للمختصين، وأيضاً، لكل رجل وامرأة قبل الدخول في هذه المرحلة الخطرة، لقد تطورت هذه العلوم كثيراً، في المجتمعات الغربية، بعكس الواقع في البلاد العربية التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الاهتمام بهذا المجال لأسباب كثيرة، وفي تقسيم الحياة نجد أن مرحلة منتصف الحياة كما يقول الكتاب، هي الفترة من الحياة التي لا نتكلم عنها كثيراً، بعكس الطفولة والمراهقة، ومع ذلك فهي غنية بالتغيرات، والمقصود هنا هي هذه المرحلة الخاصة من الرشد الطويلة، إلى حد ما في أيامنا هذه، وهي بعيدة عن الكهولة، ولكنها بعيدة أكثر عن الشباب، ويقال إنها ستكون أحد الأسرار الأكثر حفظاً لمجتمعنا وربما لتاريخ الإنسانية، تمتد هذه الفترة بين الأربعين والخمسين، على الأقل وربما تكون قبل هذا العمر، وبعده، إنها تشكل عند بعضنا مرحلة انطلاق جديدة، وتشكل عند آخرين بداية الانهيار والتراجع، وهي تترافق بتغيرات شخصية، تكون أحياناً عميقة جداً ومثيرة للدهشة».
وفي هذا المقطع إشادات عديدة ومصطلحات يحسن الوقوف عندها، فالأزمة ليست في منتصف العمر، بل في منتصف الحياة، وهي ليست خاصة بجنس أو ما شابه، بل هي عامة، وغير محددة العمر، فقد تأتي قبل الأربعين، وقد تمتد بعد الخمسين، وذلك حسب الفروقات الفردية بين الأشخاص، والأهم قد تكون نقطة نهاية عند كثيرين، وقد تتحول إلى نقطة انطلاق في رسم حياة جديدة، وذلك كله يخضع لرؤية المجتمع والشخص، فهذه المرحلة عكس مرحلتي الطفولة والمراهقة، لا تحظى بالدراسة، وتبقى سراً من الأسرار لأن الشخص في هذه المرحلة من الحياة إما أن يقول أو لا يقول، إما أن يفصح أو يحيا حياة سرية مخفية، ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة والدراسات المشابهة، وهذا ما يفسر عدم وجود دراسات عامة عن هذه المرحلة، وفي دراساتنا العربية بشكل خاص، وما قدمته المؤلفة غاية في القيمة والأهمية، لأنه ليس دراسة نظرية تنظيرية إحصائية، بل هو دراسة ميدانية طبية نفسية معاينة، وفصول الكتاب توحي بذلك! منعطف سن النضج، أزمة، دهاليز الأربعينيات، الزواج والأطفال والأهل والعمل، عمر الرشد اليوم، تجاوز الأزمة، أبواب الخروج من أزمة منتصف الحياة، والخاتمة بالمراهقة الجديدة.

الجانب النفسي
الدراسة التي نعرض لها ليست ذات صبغة عاطفية بحتة، مع أنها تعطي اهتماماً خاصاً لهذا الجانب، لكنها ذات أبعاد نفسية، ويشير الدكتور السيد مترجم الدراسة إلى ذلك بوضوح «إن التوازن النفسي، الذي يخرج به الإنسان من طفولته، عامل مهم في قدرته على امتصاص صدمة الأزمة، وتعامله مع إفرازاتها على الصعد جميعها- تختم المؤلفة كتابها بمحاولة الإجابة عن سؤال موجود، وهو: هل يمثل منتصف الحياة فرصة حظ ثانية للإنسان؟.. وهذا الجانب ركزت المؤلفة عليه بشكل كبير لأنها أمام نماذج عديدة استرعت انتباهها في عيادة الطب النفسي، ولأن المؤلفة تعالج حياة لم تنطلق من مفهومات طبية فقط، بل غاصت في جوانب عقيدية وميثولوجية، لأنها حسب منظورها والمنظور العلمي تمثل منطلقات الشخصيات التي تقوم بقراءتها ومعالجتها، وهي ليست ذات قاعدة فكرية واحدة، وفي هذا إشارة إلى ضرورة الانطلاق من مسلمات الشخص الذي تحتم معالجته، وإلا فلن يتم الوصول إلى نتيجة «جاء في الكتاب المقدس للطب الصيني أن الحياة تجري بتتابع العقود، وهي تأخذ مساراً صاعداً حتى سن الأربعين، حيث يبدأ تراجع الوظائف العضوية الحيوية، ويبدأ الخط النازل للحياة».
«إن تقسيم الحياة إلى سبع مراحل، مثلما اقترح الكلدانيون، هو تقسيم أكثر رمزية، إنه يستند في الواقع إلى معرفة الكواكب السبعة».
«تميز الهندوسية القديمة بين أربع مراحل من الحياة وفق الأدوار المختلفة التي يقوم بها الإنسان».
«ينظر الإغريق القدماء إلى الرقمين سبعة وتسعة على أنهما يقابلان مرحلة حرجة من الحياة البشرية».
هذه النقول تظهر شمولية البحث في العينات والتحليل، والتي تظهر إمكانية معالجة القضايا لأنها لا تنطلق من رؤية واحدة سواء كانت طبية أم لم تكن كذلك.

فواصل منتصف الحياة
سردت المؤلفة في الكتاب جملة من القصص لشخصيات تمت معالجتها من الرجال والنساء، وهذه القصص الميدانية مهمة للغاية لأن الكاتبة تقدم نماذج واقعية لما رأته أزمة منتصف الحياة، ولكنني أترك هذه القصص لأقف عند إشارات عميقة في هذه الدراسة وفي هذه الحالة الخاصة التي تقف عند الجوانب العاطفية.
فالمرحلة ليست عادية، وإنما مفصلية، والذين يقعون فيها ليسوا في نهايات أعمارهم «إن الأزمة مهما كان مصدرها وطبيعتها هي لحظة مخاطرة، وهي في الوقت نفسه، مرحلة لابد من تجاوزها، إنها امتحان يجب تجاوزه، ونادراً ما نخرج منه سالمين، لأنه يتغير باستمرار، ويمكن أن يؤدي إلى العدم أو يجعلنا أكثر قوة، «وفي هذا إشارة إلى أن الغالبية التي تستشعر الأزمة من العارفين والذين يطمحون إلى التغيير والخروج من الأزمة، أما بقية الذين لا تشكل لهم هذه المرحلة أزمة فهم العاديون الذين يدخلون الحياة ويخرجون منها من دون أن يتفاعلوا مع المحيط.. والمحيط له تأثير بالغ في هذه الأزمة وسأعرض لنص خطر جداً في الكتاب يظهر حقائق قد نستشعرها، لكن قليلين هم الذين يقفون عندها، فهي أزمة داخلية، لكنها ذات تفاعل خارجي، إن لم نقل ذات مصدر خارجي، وبقدر تفاعل المرء مع الوسط الخارجي يمكن أن يتأثر بالأزمة، فينجو أو يقع.
«تتمثل أهمية بعث الماضي في أنه يسهم في البعد الوجودي للأزمة، إن الاضطراب الداخلي والشك ومراجعة الخيارات الشخصية، هذا كله يرافق الأزمة، على كل حال إن المراهقة لا تحتاج إلى عامل خارجي مثير لكي تحدث، في حين أن أزمة منتصف الحياة تبدو، في بعض الحالات ناتجة عن حادث من نوع الفقدان الحقيقي أو الانفعال العاطفي، إن منتصف الحياة، حسابياً، في الواقع، مرحلة غنية بالانكسارات، وخاصة من حيث الأحزان أم حالات الطلاق، أم العطالة عن العمل، أم المرض، ولهذه الأحداث دائماً تأثير نفسي يدفع للاضطراب».
تركت القصص لأن المعالجة تتم وفق هذه الرؤى، وقد بينت الكاتبة أن المراهقة ذات عامل داخلي، إذ يقوم المراهق والشاب بتجديد خياراته وفق دوافع داخلية، وهذه الخيارات قد تكون العامل الداخلي في التسبب بأزمة منتصف الحياة، أما أزمة المنتصف، وإن كانت عواملها داخلية، إلا أن تفاعلها الخارجي هو الذي يسهم في تفاقمها:
– أزمة الخيارات التي قد يقوم بها المراهق أو الشاب تحت ضغط حيوي، يكتشف في منتصف الحياة أنها كانت غير موفقة، فيخضع لفقدان عاطفي أو طلاق أو ما شابه، ويكون العمل ضمناً، فخيار العمل ونوعه قد يؤدي إلى مرض أو عطالة.
– مرحلة منتصف الحياة هي مرحلة النضج القابلة للمراجعة، فالرجل والمرأة في مرحلة مراجعة للحسابات من النواحي كافة، فهل كانت الأسرة موفقة؟ وهل كانت العاطفة مجنحة وقادرة على البقاء أم إنها حيوية فقط؟
– مرحلة منتصف الحياة مرحلة مراقبة للأحزان والانكسارات والنجاحات، والتفاعل مع المحيط الخارجي هو الذي يظهر له أن ما قام به كان مغامرة جيدة أم لم يكن، فهو في مرحلة سكونية قادرة على القراءة والتحليل والموازنة، وهذا يدفع عن المرحلة تهمة الجهل، أو محاولة إعادة مراحل سابقة.
– الفقد، مهما كان نوعه، أو الاكتشاف الجديد، هو الحد الفاصل في تقييم المرحلة والخروج منها، وقد أظهرت الدراسة والحالات التي تمت معالجتها من نواحي العاطفة أو العمل، أن المراجعة يمكن أن تخلص المرء من الإحساس بالفقد، ففي حين قد يخفق في متابعة خيارات المراهقة والشباب، يمكن أن ينجح ويبدأ حياة جديدة بعد منتصف الحياة في عاطفته وعمله.
أزمة منتصف الحياة، فرصة حظ ثانية… دراسة نفسية عميقة ومتخصصة نقلها إلى العربية الدكتور غسان السيد، ولكن هل يمكن أن تمثل للقارئ العربي عملية بحث عن حياة جديدة، وعن فرصة حظ ثانية، أم إن مجمل الموروث يمكن أن يقف حائلاً لتبقى الأزمة مستمرة في أجيال متعاقبة! كتاب يستحق القراءة والتمعن من كل شخص وفي أي موقع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن