قضايا وآراء

تيران وصنافير.. حين يكون الاقتصاد محدداً للسياسة

| عبد المنعم علي عيسى

خلال زيارته الأولى للقاهرة كمليك للسعودية في نيسان 2016، أبرم سلمان بن عبد العزيز عشرات الاتفاقيات، كانت لإحداها إشكالية لا تزال تداعياتها قيد التواتر وليس من المقدر لها أن تقف عن نوسانها في وقت قريب، وقضت بـ«إعادة» جزيرتي تيران وصنافير إلى السيادة السعودية، وفي حينها قيل إن الرئيس عبد الفتاح السيسي قد قام بتكتيك بارع، فهو لم يكن يريد خسارة الاتفاقيات العديدة ذات الفوائد الجمة لبلاده، الأمر الذي يمكن أن يحدث لو رفض تلك الاتفاقية، وفي الآن ذاته فإن لديه العديد من السواتر التي يمكن له أن يختبئ وراءها أو يتعلق بتلابيبها لإنقاذه مما وقع فيه.
لربما بدا تواتر الأحداث مؤيداً لهذه الفرضية السابقة، ففي كانون الأول من العام الماضي أصدرت المحكمة الدستورية المصرية العليا قراراً ببطلان الاتفاقية سابقة الذكر، آنذاك كما تبين، كان قرار المحكمة الدستورية يمثل انعكاساً لحالة تردي العلاقات السعودية المصرية جراء اختلاف الرؤى في العديد من المسائل وعلى رأسها المسألة السورية، كانت تلك الحركة أشبه بحالة تجاذب في لعبة شد الحبل المحتدمة بين الرياض والقاهرة، لتتغير المناخات بين البلدين وتنقلب رأساً على عقب الأمر الذي يمكن رصده في قمم الرياض أيار الماضي، حيث مثل حضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تلك القمم انصياعاً مصرياً لزعامة سعودية كانت أولى تداعياتها جاءت في إصدار البرلمان المصري في 13 من الشهر الجاري قراراً بالتصديق على الاتفاقية التي تؤكد سعودية تيران وصنافير مرة واحدة وإلى الأبد.
هذا المسار يطرح العديد من الاستنتاجات والعديد من الأسئلة التي قد تكون ظاهرياً بلا أجوبة، فالمملكة السعودية مترامية الأطراف بل تملك مئات الجزر الشبيهة بجزيرتي تيران وصنافير، فما دواعي الإصرار على الاستحواذ بهما؟ وقد يقول قائل: إن الأمر يعود إلى موقعهما المهم الذي يتحكم بخليج العقبة، وقد استخدمهما الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر لإغلاق الملاحة أمام السفن الإسرائيلية في أيار 1967 ما تسبب بحرب حزيران في العام نفسه إلا أن القول لا يصح في الحالة السعودية تحديداً، فالرياض بالتأكيد لا تملك النيّات ولا القدرة لإغلاق ذلك الخليج أمام أحد، فقرار من هذا النوع يتجاوز حجم وقدرات ودور المملكة السعودية.
من جهة أخرى قد يقول قائل: إن المسألة هي مسألة سيادة وطنية لا يمكن المساومة عليها، وهو قول أيضاً من السهل ضحده فالرياض لم تطالب وعلى مدى وقوع الجزيرتين تحت السيطرة الإسرائيلية بعودتهما إلى سيادتها، ثم إن هذا الأمر يمكن حله عبر اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، ولمصر تجربة مهمة في هذا السياق عندما لجأت إلى تلك المحكمة لاستعادة طابا من السيطرة الإسرائيلية، لكن مساراً من هذا النوع يحتاج إلى زمن قد يمتد لعقد إن لم يكن أكثر، ولربما يكمن هنا مربط الفرس فالاحتياج السعودي لهما هو حالة راهنة وبمعنى آخر فإن تيران وصنافير لازمتان للرياض الآن، وقد لا تكونان كذلك غداً أو بعد غد، ولتفسير هذه الحالة يمكن القول إن الرياض تبحث عن حلقة تضعها في العنق المصري لتستطيع عبرها قيادة مصر إلى حيث تريد خصوصاً لإدراكها أن ما تريده هو في الكثير منه يتنافى مع المصالح المصرية أو حتى مع متطلبات الأمن القومي المصري، ومن هنا فإن عامل الوقت هو عامل حاسم، وإذا ما أردنا إجراء مقاربة سريعة للخيارات المصرية أمام تلك المسألة يمكن القول إن القاهرة كانت أمام خيارين اثنين: الأول الذي يقضي بالذهاب بعيداً مع حالة المزاج الشعبي المصري ومع تطلعات القوى السياسية المصرية الرافضة لتلك الاتفاقية، والثاني هو اتخاذ قرار سياسي لا يتناسب مع تلك المناخات بل لا يضعها في اعتباراته، وفي الاستقراء فإن الخيار الأول سينتج عنه خسائر تبدو أكيدة في وقت تواجه فيه القاهرة أزمة اقتصادية هي الأقسى منذ العام 1977، ما يعني الدخول في المجهول، ولربما كان من الصعب اتخاذه في ظل عدم وجود بدائل قادرة فعلاً على أن تملأ الفراغ الذي سينجم عن الخيار الثاني الذي سيؤدي إلى ضمان الحصول على المسكنات الاقتصادية الكفيلة بوقف تردي الوضع الاقتصادي المصري الراهن وصولاً إلى ضمان إسكات الشارع أو عدم انفجاره.
إن الخيار الثاني سيؤدي، فيما سيؤدي إليه، إلى وقوع «خوفو» المصري تحت ظل خيمة السعودية التي لن تستطيع منحه الظل الكافي، ليبدو المشهد كريكاتوريا ومن الصعب تسويقه، ناهيك عن أن هذه الحالة تكون عادة ذات آثار تراكمية يصعب لحظها بشكل دائم على الرغم من أن المصريين هم من اكتشفوا بعبقرية أحمد زويل كاميرا «الفيمتو ثانية» التي تستطيع رصد حركة الجزيئات في خلال أجزاء من المليون في الثانية.
قد يكون العامل الاقتصادي إحدى أهم ركائز استقرار ودوام الأنظمة وهو بالتأكيد ذو دور كبير في نزع فتيل العديد من المتفجرات التي يحتويها المجتمع المصري، ومن الضروري أن يكون له حيز كبير في حسابات الدولة، إلا أن السياسة عندما تصبح كلها رهينة الاقتصاد وحده أو يصبح هذا الأخير محركها الأساس، حتى لا تعود هناك محركات أخرى، عندها تصبح الأمور أقرب إلى إدارة شركات تجارية كبرى تبحث عن مصالحها، إلا أنها غير معنية بمسائل يفترض أن تكون الأنظمة القائمة هي التي تلقي بحمولاتها على أكتافها.
باختصار شديد، عندما تغيب الثوابت تماماً في سياسة أي بلد أو نظام، فإن ذلك يعتبر نذيراً استباقياً ببدء تلاشي الكيان بعد مروره بمرحلة تطول أو تقصر من الوهن، تعقبها صراعات تناحرية داخلية تؤدي إلى زواله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن