قضايا وآراء

وترا جنيف وأستانا مترهلان.. حلول بالتقسيط

| عبد المنعم علي عيسى

كان إخفاق أستانا 5 المنعقد يومي 4- 5 من الشهر الجاري منتظرا أو أن إخفاقه كان يمثل انعكاسا واقعيا لحقائق عديدة أخذت تستكمل شروطها ميدانيا في الآونة الأخيرة، الأمر الذي يؤدي حتما إلى إقفال مسارات التسوية أو دخولها حالة «ستاتيكو» على الأقل، أما طول أو قصر هذه الأخيرة فهو يرتبط بسرعة، أو بطء تبلور معطيات الصراع المحتدم حالياً في الشرق السوري، وإلى ذلك الحين سيكون محكوما على وتري جنيف وأستانا بالترهل لكن دون أن يؤدي ذلك إلى انقطاعهما فللأمر أثمانه المكلفة التي لا يريد أي من أطراف الصراع أن يدفعها أقله حتى الآن.
ظلت السمة البارزة لمرحلة ما قبل لقاء هامبورغ في السابع من الشهر الجاري، هي استعادة مناخات آب 2013 واتهامات واشنطن لدمشق باستخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية في الحادي والعشرين منه، في مسعى أميركي يؤشر إلى اصطدام السهام الأميركية بالحائط، حتى لم يعد أمام رماتها سوى إعادة خلط الأوراق من جديد، وفي مواجهة هذه العملية الأخيرة أظهرت موسكو تصلبا كان يفوق ذلك التصلب الذي مارسته على مدار السنوات الست السابقة، وفي الآن ذاته لم يتوقف البريد الروسي عن بث رسائله العديدة في شتى الاتجاهات، فقيام القاذفات الروسية تو 95 بقصف مواقع داعش في سورية انطلاقا من الأراضي الروسية في الخامس من الشهر الجاري بما يمثل رسالة بالغة الأهمية، فقاذفات حميميم كانت قادرة على أن تفعل إلا أن موسكو أرادت القول إنه يجب على الخصوم عندما يعملون على تقدير موازين القوى في الميدان السوري وتحديدا الثقل الروسي فيه، ألا تقتصر حساباتهم على عديد الجنود والعتاد الموجودين راهنا، بل يجب أن تتعداها ليصل الأمر إلى حدود وضع الجيش الروسي برمته في الميزان، وفي الغضون كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد اللقاء بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في هامبورغ على وقع ضربات أميركية للجيش السوري، كانت معدة مسبقاً وبدرجة تفوق تلك التي حدثت في السابع من نيسان الماضي، ولربما يمكن لنا أن نجازف فنقول إن عدوانا أميركيا على دمشق كان مبيتا وكان من المقرر له أن يحدث ما بين 2 و4 تموز الجاري قبل أن تضطر واشنطن إلى تأجيله، أو إلغائه، لاعتبارات عديدة أهمها تلك التقارير التي نقلتها الاستخبارات الأميركية وتقول إن موسكو قامت بتشغيل منظومة إس 400 بكامل جهوزيتها وكذلك تقول إن هذي الأخيرة قد قامت بتشغيل محطات الإنذار المبكر لمراقبة الصواريخ البالستية والطائرات المتطورة في سيبيريا وربطها بغرفة عمليات حميميم مباشرة ما يعيد بالذاكرة الأميركية إلى استحضار سيناريو 29 آب 2016 عندما أسقطت هذه المنظومة الأخيرة صاروخين أميركيين كانا قد انطلقا لكنهما لم يصلا إلى أهدافهما، وهذا الحدث الأخير كان يمثل الدافع الأكبر لواشنطن لإنجاز الاتفاق الكيميائي السوري في 14 أيلول 2013، ناهيك عن أن التطور الذي شهدته الأزمة الكورية مؤخراً كان قد شكل هو الآخر مانعا قويا يضاف إلى ما سبق، فبيونغ يانغ قفزت في الرابع من الشهر الجاري قفزة كبرى تردد صداها على امتداد الجغرافيا الأميركية عندما قامت بإجراء تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ بالستي عابر للقارات، الأمر الذي فرض، وسيفرض على واشنطن التعاطي مع هذا الحدث الأخير بأولوية لا تسبقها أولوية أخرى، فالتجارب الصاروخية الكورية السابقة كانت تسجل كحد أقصى تهديدا لبضع مئات من الكيلو مترات في العمق الأميركي من جنوبه وجنوبه الغربي في حين أنها باتت اليوم قادرة على ضرب قلوب الأخطبوط الأميركي الثلاثة، وما يزيد الأمور تعقيدا هو أن الصين لم تكن متجاوبة مع المطالب الأميركية، وهو ما يتأكد عبر التهديدات الأميركية لبكين بقطع العلاقات التجارية معها في حال لم تشارك في الحصار الذي تفرضه واشنطن على كوريا الديمقراطية ولربما يشير هذا المطلب الأميركي، غير الحكيم، إلى حجم القلق الذي يعتري صانع القرار السياسي الأميركي، فهذا الأمر، فيما لو حدث، فإنه سيشكل دافعا أكبر لسلوك خيارات شمشونية أو ستصبح بيونغ يانغ مضطرة إلى حلحلة الواقع الجديد ولو استدعى الأمر عسكرياً، إذ لطالما شكلت الصين ومنذ انتهاء الحرب الباردة 1989 ملاذا وحيدا لكوريا الديمقراطية والداعم الأكبر لها على مختلف المستويات، ومن شأن خسارة كهذه أن تكون لها تداعيات كبرى على الداخل الكوري، ولذا فإن من الغريب أن تبادر واشنطن إلى دفع الأمور بهذا الاتجاه في مؤشر على حجم الاضطراب الذي ينتاب الإدارة الأميركية، واللافت أن تكريس هذه المعطيات كان قد ظهر دفعة واحدة في خلال جلسة مجلس الأمن المخصصة لمناقشة التطور الكوري يوم السادس من الجاري، ولربما أمكن القول إن تلك الجلسة كانت هي الأكثر حدة منذ انتهاء نظام القطبية الثنائي الذي سقط بسقوط الاتحاد السوفييتي أواخر عام 1991، وفي هذا السياق جدير بالذكر القول إن المتابع قد يلحظ هنا ثمة ترابط خفي غير منظور ما بين الأزمتين السورية والكورية، وأقله أن بيونغ يانغ تختار مواقيت تصعيدها انطلاقا من الأزمة السورية، ولربما بما يخفف الوطء والضغوط على دمشق، وفي مطلق الأحوال فإن أمراً كهذا ليس بمستبعد ولا هو جديد، فلا تزال في الذاكرة إلى اليوم مساعدة بيونغ يانغ للعرب ماثلة في الأذهان إبان حرب تشرين الأول عام 1973.
قبيل أن يلتقي ترامب وبوتين، ذكر موقع «الدايلي بيست» الأميركي المقرب من الحزب الجمهوري نقلا عن مصدر أميركي قال إنه رفيع المستوى، أن الإدارة الأميركية باتت مستعدة للتخلي عن شرط رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة في مؤشر يؤكد، بعيداً عن تصريحات وزير الخارجية الأميركي ريك تيلرسون النارية، وجود نوايا لخلق تقاطعات أميركية مع موسكو، لكن دون أن يعني ذلك الوصول إلى وجود رغبة أميركية في دفع التسوية السورية نحو منعطفات مهمة فيها، وهو ما تأكد عبر التوافق الأميركي الروسي الأردني المعلن يوم السابع من الجاري وأضحى ساري المفعول في التاسع منه، والمتضمن إعلان وقف إطلاق النار في الجنوب السوري، فعلى الرغم من أهمية هذا الاتفاق، وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي كان قد أعلن في الثامن من الجاري أن هذا الاتفاق الأخير جاء نتيجة لتغير في الموقف الأميركي، إلا أن التصريح يبقى لغاية في نفس يعقوب، وهو لا يمثل الواقع الأميركي فعلا، فالاختبار الحقيقي اليوم للنوايا الأميركية لا يوجد في الجنوب السوري، وإنما في الشرق والشمال الشرقي السوريين، ولذا فإن هذا التوافق لا يعني بالضرورة بداية لتوافقات أخرى يمكن أن تشهدها مراحل الأزمة السورية اللاحقة.
بات الصراع العالمي الذي نعيش في خضمه محكوما بمشروعين اثنين، الأول روسي والثاني أميركي، فموسكو تريد أن تثبت مواقعها في النظام الدولي من خلال التمكين لمواقعها في غرب آسيا وتحديدا في القوس الممتدة من البحر المتوسط وصولا إلى الصين، وهي ستعمل بكل قواها على إنجازه، ولا مجال أمامها للتراجع فيه، فالرهان الروسي هو أن الوصول إلى تلك النقطة سوف يؤدي إلى ولادة نظام دولي جديد كان الرئيس الروسي قد بشر به منذ أن كانت الأزمة السورية في طورها اللبني، على حين أن واشنطن تبدو ماضية في سعيها للسيطرة على طريق الصين الآسيوي وفي السياق ربط المحيط الهادي مع البحر المتوسط وجعلهما أميركيين خالصين، الأمر الذي سيعني أن بحر الصين الجنوبي سيكون في خلال العقدين القادمين نقطة الاشتباك الدولية الأسخن والتحضيرات الأميركية على تلك الجبهة، كانت ولا تزال حثيثة، وهو ما يفسر القرار الذي أبلغه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لدول الخليج غداة حضوره لقمتهم المنعقدة في 20 نيسان 2016، ولا تعني انعطافة ترامب الراهنة التي تجلت تقاربا أميركيا مع دول الخليج تغييراً حقيقيا في تلك الإستراتيجية المار ذكرها، وهي لا تعدو أن تكون استراحة قصيرة يتم التزود من خلالها بالمؤن اللازمة، تماما كما يفعل البولمان في رحلته مابين اللاذقية ودمشق عندما يستريح في حمص ليتزود هو وركابه بالنواقص.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن