ثقافة وفن

عن الوطن وسرّ الوطن

| إسماعيل مروة

ما أكثر ما نتغنى بالوطن، في كل لحظة، في كل طرفة عين نتغنى بالوطن، وفي الوقت نفسه نقوم باغتياله ونحره، في سلمه وسلامه نمتص ما تبقى من خيره، نقتل ما يمكن أن ينهض به، وفي أوقات الحرب والدمار والخراب نجهز عليه، فنأتي على ما تبقى في الغناء لمجده، بسيل من الأغنيات والقصائد والأناشيد، لم يؤسس لها في زمن السلم، فجاءت ارتجالاً لا عفوية فيه، وجاءت سماً زعافاً في شرايين الوطن! ونتغنى بالوطن ووحدته الوطنية لنعمق أنقساماً كان مستوراً من قبل، وانكشف! نتحدث عن طهرية الوطن ونعمل على اغتصابه عنوة، لأن التحليل النفسي علّم قارئه أن العنوة أكثر إمتاعاً للمريض، نغني له، ونسرح في أفانين سرقته والإساءة إليه! نغني للطهر ونحن ننغمس في أتون فساد لا ينتهي إلا بالبتر! نغني إنسانه ونستجديه، وفي الوقت ذاته نحرمه كل شيء! وجزء كانوا ذات يوم، يبكون على الإنسان ويطلبون المزيد من الدمار! يتألمون للخراب ويستنجدون بالعم سام ليصب نار حممه وغضبه على الوطن والإنسان!
مشاهد مؤلمة، ومشاهد قاتلة، ومقاطع مخزية تتداولها وسائل الإعلام التقليدية، ووسائل التواصل الاجتماعي لما آل إليه الوطن والإنسان، وصرت تسمع من يتحدث بانبهار عن بدء الاستعداد الغربي لضرب سورية العظيمة! وكأنهم سيضربون بعيداً خلف الأطلسي! منذ بداية الحرب على سورية خرجت معارضة دعيت بالخارجية، وقد كانت في الداخل، والأكثر إيلاماً أنها كانت في مواقع سلطوية فاعلة، وأذكر مرة أن أحدهم سألني، فقلت: قد لا أكون مع الفساد، فهل تريد أن أكون مع الجزء الأكبر من الفساد، الجزء الأسوأ من السلطة؟! ذلك الجزء الذي لم يترك محرماً لم يرتكبه، ولم يبق فساد لم يمارسه، ولأنني في صلب الشأن العام أعرف متى يمكن أن يبهرك مسؤول ما بكلماته، ومتى يمكن للعالم أو رجل الدين أن تنهمر دموعه، وتأتي البحة والحشرجة إلى صوته، ومتى يمكن أن يصمت هؤلاء صمتاً مطبقاً!
قلت مشاهد مؤلمة وفظيعة! ففي الثمانينيات كانت شعارات الدول العربية تستجدي سورياً ليعمل لديها، وكنت لا تجد إلا القليل القليل الذي يذهب، ولأغراض ملحة أو غايات، فالسوري هنا يعمل ويشتري ويسكن ويترفه ويتنزه وليس بحاجة لأي فرصة عمل..! وبالتدريج صرت بمعية أولئك الجزء الأسوأ والأسود تجد الطوابير أمام المكاتب الوهمية التي تخدع البسطاء، وليس أمام السفارات فقط، هل تذكرون؟
وصار العامل السوري العادي يقصد لبنان الشقيق ليعمل في مهنته، ولكن باحترام، وإذا ما حصل معه أي مشكلة يدافع عنه لبنان قبل سورية، والدولة السورية لا تتركه من دون إنصاف، وفي سياق الحديث عن الوطن وسرّ الوطن نعرض المشاهد التي تتنافى مع الغناء والتغني، فحب الوطن فعل لا شيء آخر.
أحدهم والجميع لصيغة بالبلاغة، يجيد تقليب المفردات ذاتها في فمه وعلى لسانه، يرتجل ويحصد الإعجاب، وقد استعمل هذه اللغة والبلاغة في تمجيد السلطة، وبالمحصلة تمجيد نفسه عندما كان فيها، وحصد ما لا يمكن له أن يفعله من دون السلطة، وحمل الألقاب، ومارس أسوأ أنواع السلطات، وعندما بدأت الحرب على سورية انحاز إلى المال، وكشف عن هويته الفكرية التي يتبناها، ومن هناك لم يترك فرصة ليظهر أمام المشاهد والمستمع بطلاً لا يجارى، في أحاديثه وحدها اكتشفنا أنه كان ينصح مقام الرئاسة!! واكتشفنا أنه صاحب موقع! وصاحب رأي يؤخذ به من الرئاسة! واكتشفنا أن رأيه هو الذي جعله يخرج من هنا لينحاز مع المواطن! وعلى مدى سبع سنوات صار مدار نشرات الأخبار والبرامج الحوارية والذكريات، ومارس أقصى أنواع الشحن ودفع- والإعلام يدفع- إلى مواجهات ومغامرات وأشياء كثيرة لا يمكن أن نتخيلها..!
وبكى على الإنسان وأهله في سورية، وصارت دمعاته شاهداً على مقدار ألمه!
ومنذ وقت ليس قصيراً توجه بتسجيل إلى الناس الذين قتلهم، وإلى البلاد التي أسهم بتدميرها ليقول: أنتم ذاهبون إلى الإبادة، كذلك اتفق المجتمع الدولي، فحاولوا أن تجدوا حلاً سلمياً مع النظام!
لا يا…! ما هذا الاكتشاف؟ الآن… وهو يعلم معناها بما أنه صار مفكراً إسلامياً كما يعلن ويدعي وهو يعلم أنه ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون فالفكر شيء آخر!
وأحدهم لم يكن يحلم بوجبة طعام إلا بوساطة المحسنين، جعلته الحرب متنفذاً، وصار قادراً، وتحول إلى فاعل كبير، ينغمس في الدم السوري والدمار السوري، ويتحول إلى جزء من فساد قاتل، أرأيتموه في أماكن اللهو والسهر؟ أرأيتم من كان ينتظر الصدقات، وهو يفرش الطاولات وتوابعها؟ وفي السهرات ذاتها يتغنى بالوطن أو يطلب من المغني أن يغني للوطن!
صورتان إحداهما لواحد أوصلنا إلى ما نحن فيه هو وأمثاله، والثانية لمن يريد لسورية أن تبقى حزينة مدمرة ليصبح سيد مرابع الليل، وربما مالكها! تركهما ليس إيماناً بنهاية كل منهما، وأنا ممن لا يؤمنون بترك القدر هو الذي يعاقب، أتركهما لأنحاز إلى صور مؤلمة لا يتخيل أحدنا أن تحصل بوجود هذين المحبين للوطن!
امرأة سورية، وأركز على هويتها، وفي مخيمات تركيا تتعرض للاغتصاب، فلا الوطني العظيم، النائم في أحضان تركيا غضب ولا الفاسد في البلد فعل شيئاً تجاه ما جرى، وبقيت مغتصبة تبحث عن مغتصب آخر! وامرأة سورية في شوارع تركيا مع ولدها والجنين بصدرها تختطف وتغتصب وتقتل مع جنينها ووليدها، ولم تتحرك شعرة في مفرق من يتحدث أمام جسور استنبول، ولم يتخلف أحدهم عن سهرة في الداخل! فعن أي سوري تدافعون؟ وعن أي سوري تتحدثون؟ وماذا سيتبقى لكم من سوري منتهك مغتصب علمتم به ولم تفعلوا شيئاً؟! طفل سوري، وكل أخبار الأنذال تضع الصفة السورية، وفي مخيم يغتصبه شاب ويقتله، وفيما بعد يعرضون صورة المغتصب، إنه شيخ طويل اللحية محفوف الشاربين، قالوا إن الحكومة الأردنية ستعدمه! وقالوا بأن أباه تبرأ منه! وقالوا وسيقولون: إنه مريض نفسي! وسيكررونها ليخرج من السجن بانتظار سوري آخر لإهانته وراقبت الأخبار لأسمع كلمة ممن يتحدثون باسم الشعب السوري والإنسان السوري فلم أحظ بشيء! يبدو أن الإنسان السوري الذي يتحدثون باسمه في الداخل والخارج هو السلطة والوصول إليها، وربما إن وصل أحد الذين يطالبون بحرية السوري إلى المنصب سيعتب على محفوف الشاربين لأنه لم يكن مغتصباً كما يجب! ألم يدفعوا البسطاء للخروج؟! أين أنتم يا سادة؟!
كل ما قلته لا شيء أمام الوطن وسر الوطن… فهل رأيتم سرّه؟ وهل هزّكم سرّه؟
يا من دفعتم الناس البسطاء للهرب دفعاً، واتفقتم مع حلفائكم على التسول على حسابهم، هل يكفي أن تصدروا بياناً يحدد المكاسب المالية للبنان على سبيل المثال؟ ماذا فعلتم مع إحراق المخيمات للبسطاء، ولا يعنيني هنا أي واحد مؤدلج؟! عندما عرضت القنوات اللبنانية، وليس السورية التعامل المهين مع السوريين من حيث التجوال وأعمال السخرة ماذا فعلتم للسوريين؟ من حق الحكومة اللبنانية واللبنانيين أن يتعاملوا بالطريقة التي يرونها مناسبة مع السوريين، فهم أحرار بوطنهم، وهم من قبل الأزمة يتعاملون مع السوري تعاملاً فوقياً!! ولكن الفنانين اللبنانيين الذين صاروا نجوماً في دراماكم التي تصنعها سورية الدولة أو سورية المعارضة هل سمعتم ما قالوه تجاه سورية وليس تجاه الإرهابيين؟! وقناة لا تحب سورية ولا السوريين عرضت لتعذيب شاب وإهانته بحجة أنه يمكن أن يتظاهر ضد المعاملة السيئة للسوريين، هل سمعتم في المعارضة والسلطة الشتائم التي وجهت لسورية وأختها وأخت جيشها؟ هل صدر منكم أو عنكم شيء ما تجاه أن يداس رأس الشاب ليقول ما يمليه عليه معذبوه؟! اسكتوا أيها المغنون، وأخرسي يا جوقة التباهي، فقد أوصلتم الوطن إلى مكانة يتطاول عليه فيه العاهر والحشاش والمرابي واللص والقواد وابن الشارع فهل أدركتم الوطن وسره؟ إنه ينكركم ولا يعرفكم!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن