ثقافة وفن

نصف كل شيء

| د. اسكندر لوقـــا

أستعير كلمات هذا العنوان مقدمة للأسطر الآتية من قول للفيلسوف اليوناني القديم لوقيانوس الأنطاكي [240-312] وهو «البداية هي نصف كل شيء». من منطلق هذا القول يبدو لي أن أي عمل في الحياة لن تكون له نهاية إلا إذا كانت له بداية، تماما كما البناء لا يمكن أن يصلح للسكن إلا بتوافر عناصر إشادته ومستلزمات تلك العناصر مهما كانت أصنافها وأحجامها. كذلك هي المعرفة التي بدايتها الحروف فالكلمات وما يستتبع ذلك من جهد لتوفير لوازم جعلها قابلة للحياة والانتشار بين الناس، ومن ثم الارتقاء بحاملها من مجرد كائن يتلقى إلى كائن قادر على العطــاء.
وبطبيعة الحال، فإن العقل بمقدار ما يختزن من أدوات المعرفة ومفرداتها، يكون صاحبه قادرا على التعبير. وقد أضاف لوقيانوس أن البداية، عندما تكون واضحة النهاية ستكون كذلك، على غرار دقات الساعة. ونحن نعلم أن الساعة مسندها البدء بالثواني وتليها الدقائق. بمعنى أن الساعة لا تكتمل إلا بالدقائق والدقائق بدورها لا تكتمل إلا بالثواني.
وفي الحياة، ثمة حالات تخضع لمثل هذه المعادلة، على حين هناك حالات لا تخضع لها. فثمة أناس بدؤوا سيرهم على درب المعرفة ولكنهم لم يكملوا الدرب فانتهوا قبل تجاوز خط الوسط، بين البداية والنهاية، لسبب أو لآخر، على حين ثمة آخرون لم يتوقفوا عن السير حتى بلغوا نهاية الدرب، ومنهم المشاهير في سجلات التاريخ، الذين لم يحل بينهم وبين مقاصدهم حائل، فانتهوا كبارا.
إن الوقوف في منتصف الطريق، كما الوقوف في منتصف نهر، العودة إلى بداية شاطئه كما الاستمرار في السير وصولا إلى شاطئه المقابل، ذلك لأنه من حيث البلل بالماء لا فرق بين قرار العودة إلى نقطة البدء وبين الاستمرار. كذلك هو حال الذي يقنع نفسه لا سواه بأنه وصل فيتوقف عن السير. وتنطبق هذه الوضعية على المفكرين الذي يعتقدون أنهم ختموا المعرفة الشاملة وإن كانوا ما زالوا في نقطة بداية تعد في منتصف الطريق، لأن ليس في الحياة حالة يمكن اعتمادها مثلاً لوصول أحد إلى نهاية درب المعرفة، بما في ذلك الذين رحلوا وكان في وسعهم الاستمرار في سعيهم لو بقوا على قيد الحياة واستمروا في العطاء والبحث عن نهاية دروبهم في مجالات المعرفة.
من هنا بدا لي قول الفيلسوف لوقيانوس معقولا. البداية هي نصف كل شيء في الحياة، ولا تعريف في اعتقادي لعبارة كل شيء إلا ما عناه صاحب القول بأن الادعاء بمعرفة كل شيء ما زال يحتاج إلى برهان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن