ثقافة وفن

علي الجندي .. العاشق المسكون بالخوف أبداً

| أحمد محمد السح

كان الشاعر علي الجندي خجولاً في تقديم نفسه شعريّاً للآخرين، على الرغم من انتمائه إلى أسرة مثقفة تعاطت الأدب قبله، فهو لم يكن الأول وليس الأخير ضمن عائلة الجندي في مدينة السلمية التي ولد فيها، العائلة التي ظهر فيها أسماء كتابٍ وشعراء كثر، لكن علي الجندي كان أبرزهم. لم ينشر علي الجندي قصائده إلا في أواخر الستينيات على الرغم من أنه كان قد كتب الشعر في الأربعينيات، كتب شعراُ عمودياً احتفظت به المناهج التربوية، التي قاطعته بعدها، وأطفأت الإضاءة الإعلامية حول اسمه. من يعرف علي الجندي في الوسط الثقافي يتذكره عجوزاً فهو من مواليد 1928، لكن الجميع يتفق على أنه جميل الوجه، دمث الطباع، لديه حس الدعابة دائماً، لكنه نزقٌ وعنيد كذلك. من يحاول البحث في نصوصه فسيجد عدة صعوبات تكمن أولاً في إيجاد كتبه بعد نفاد الأعمال الكاملة له من المكتبات، فهو لم يصدر عدداً كبيراً من المجموعات الشعرية بل إن عددها ربما نحو 12 مجموعة شعرية فقط، فلقد ظل عاكفاً على إنضاج قصيدته زاهداً بالنجومية وأضوائها، فقد عمل على استخدام دراسته الجامعية للفلسفة للإفادة منها في تقديم لغةٍ جديدة للشعر، كما استخدم إتقانه للغة الفرنسية للاطلاع على الشعر الفرنسي بلغته الأم وليس مترجماً.
اعتمد علي الجندي في قصيده على أدوات متنوعة منها اعتماده الأسلوب الملحمي، ضمن مقاطع تصويرية تتزاحم فيها انعكاس النفس الداخلية على الصورة المتخيّلة، كما اتكأ على طريقة عرض النص على شكل دفقات شعرية متتالية أو تقسيم النص الطويل غالباً إلى نصوص صغيرة بعناوين فرعية، ولربما تداخلت وتقاطعت روح الشاعر بريشة الرسام في نص علي الجندي ويظهر ذلك في إحدى قصائد مجموعته الأولى (الراية المنكّسة):
«مررت بالشجرة العتيقة
خيل إليّ أن جذورها تمتد إلى آخر الأرض!
أما فروعها، فقد بدت لي عاشقة،
متورمة صحة وشهوة،
كل واحد منها كان قد شج صدره
وانتزع أحشاءه ليرسلها إلى الأرض
لعله يمد له جذوراً، ربما أصبحت
أشجاراً تمتد في أعماق التراب…»
ومن الأشياء التي تميزت بها قصيدة علي الجندي هي افتتانه بالتراث وبالتاريخ، فهو عاشق للفلسفة واشتقاقاتها، فقد استفاد من المتصوفة وأساليبهم في الحوار والنقاش والتلكؤ في السؤال، على الرغم من أن قصيدته بحد ذاتها هي قصيدة أسئلة، حيث تنفر من الأجوبة الجاهزة وتميل إلى خرق المعتاد، وهو ما يظهر جلياً في مجموعتيه (طرفة في مدار السرطان والحمى الترابية) حيث يدخل في الأولى ضمن أجواء شخصية الشاعر طرفة بن العبد الذي يذكر في مقدمة المجموعة مدى تعلقه به، ويجد التقاطع معه في شخصيتهما، على حين يخصص مجموعته الشعرية (الحمى الترابية) للشاعر الخارجي قطري بن الفجاءة ويقدّم تصوّراً مخيفاً عن الشعراء في جيله شاملاً نفسه به، حيث يشبههم بحالة قطري بن الفجاءة الذي انتقل إلى الشعر بعد أن تقاعد من الحرب فيقول: «لقد أحسّ هذا الجيلُ أن قطرياً في ذاته غالباً… أنه جيلُ (القَعَد)».
«… وهذا أنا،
رهيفٌ كسيفٍ حزينْ
وهذا رغيفي، وأنتَ… أنا
وكلّ الصحارى وكلّ الندى
تودّع فصل الخريفِ
وهذي بقايا الرغيفِ
فهيئ لنا الزاد والمحبرةْ
وسافر مع الريحِ والمجزرةْ
وخلّفْ لنا
إذا شئتَ هاوية المغفرةْ…»
يبدو أن الطقس التراجيدي في شعر على علي الجندي لم يكن طارئاً شأنه شأن معظم الشعراء السوريين إن لم نقل كلهم، فأسماء مجموعاته الشعرية كفيلة بأن تعطي هذا الانطباع فوراً، لكن هذه التراجيديا ليست مجانية فهو يوظّف في هذا الحزن رؤيته الاستشرافية لما يريد أن يقوله حول لغة الحب ولغة القصيدة ولغة التحفيز من خلال كشف الوجع، فالناس تعرف أنها حزينة، لكنها تعرف أكثر أنها تريد الانتهاء من هذا الحزن، ففي مجموعته (الشمس وأصابع الموتى) يهدي النصوص إلى جميع الذين استشهدوا على الأرض العربية وإلى الذين لم يستشهدوا حيث يضمخ هذه المجموعة بكمٍّ عالٍ من الحزن والاستنفار:
«أتقرّى صفحة فخذيكِ الضمنية بخلودي.. أكتئبُ وأطالعُ إنجيل البحة واللثغةِ والكفل المجتاح، وقصة جبريل، وأشعار القديسين، وآهات الموتى عند جدار الرعبِ، أغني للعلماء والفقهاء، أدوّنُ في دفتر شهوتي الموتورة قافية تترقب وجه الفجرِ… وتنتحبُ».
هو الشاعر الذي يكره المساحيق التجميلية في الحياة والشعر، فالقصيدة التي يكتشف فيها براعات زائدة يرفضها لقد انتهج لنفسه خطاً لم يحد عنه، كان يريد فقط أن يقول الناس عنه إنه شاعرٌ لم يلوث قلمه ولا يده، ولا جبينه، فهو الذي لم يحد عن كتابة الشعر، على حين تقع له النقاد كرسياً عريضاً في القصة لكنه طلقها سريعاً، عاش ثمانين عاماً وتوفي في آب 2008 ودفن في اللاذقية، كأنه كان كاسم مجموعته الأخيرة (سنونوة للضياء الأخير):
«.. هنا كلُّ شيءٍ واحدٌ، متوحّدٌ،
وكلّ وحيد صامتٌ مترهبُ،
يصلّي على سجادة الماء واقفاً…
فتصليه شمسٌ بالضياء،
وتطلبُ!»

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن