ثقافة وفن

أبعاد في التراث الشعبي وإبراز السمات الوطنية والقومية

| منير كيال

تعمل مختلف دول العالم على إحياء تراثها الشعبي فأنشأت لذلك المراكز المتخصصة المرتبطة بهذا التراث، سواء في مجال القول والكلمة واللحن والإيقاع، أم في مجال الحرفة (الكار) والممارسة والتعايش بين أبناء الحرفة والزبن الذين يتعاطون مع منتجات الحرفة، وقد تطورت هذه المراكز لدى العديد من دول العالم واتخذت منحى أكاديمياً له أساتذة جامعيون متخصصون.
وقد أدى زحف الآلة إلى قطاعات الإنتاج، وجنوح شريحة واسعة من المجتمع إلى العصرنة، أدى ذلك إلى تراخي عرى التواصل بين الماضي والحاضر، الأمر الذي جعل جوانب كثيرة من تراثنا الشعبي يندرج في ذكريات الماضي، على حين أن مجتمعنا بحاجة ماسة إلى التعايش مع هذا التراث، وجعله مواكباً لمتطلبات الحياة المعاصرة، لما لهذا التراث من دور في إبراز السمات القومية والوطنية، وبخاصة بعد ظهور المنهج المعاصر في البحث التاريخي القائل بأن تراث الأمة، أي أمة، لم يعد قاصراً على ما نجده في المتاحف ولا على الأوابد الأثرية، بل ولا على ما يقدمه التاريخ من أخبار القادة والفاتحين، وأقوال الشعراء والكتاب، وإنما تعدى ذلك إلى كل ما يصدر عن عامة الشعب من قول أو عمل يتوسل إليه بالكلمة واللحن والإيقاع والحركة بل كل ما يصدر عن كل ما يرى المجتمع فيه نفسه، ويدرك مكانته بين الشعوب، بما يجسد حياة الناس بكل ما فيها من غنى مادي وروحي وميثيولوجي وأدب شعبي بحيث يمكن إعطاء هذا الشعب أو المجتمع هوية تميزه عن الشعوب والمجتمعات الأخرى.
لذلك فإن الاهتمام بتراثنا الشعبي وجمعه ودراسته لاستنباط الأطر التي كانت عليها حياة الأسلاف وتعاملهم وتعايشهم وأنماط معيشتهم والنظم التي تربطهم أسرياً واجتماعياً، وهذا كله إنما هو مسؤولية قومية ووطنية وإنسانية، لما يحمل هذا التراث في أعطافه من عناصر الثقافة والأصالة التي تجعله أميناً على القيم الإنسانية والمثل الأخلاقية والخصائص القومية، وبالتالي فإن استشفاف هذا التراث ومدلوله وتحليله بعد جمعه وتوثيقه إنما هو تأكيد لشخصية الإنسان، فلا يكفي أن نعرف أن لدينا ألحاناً شعبية عذبة وأغاني شجية وصناعات تقليدية، وإرثاً من الأدب الشعبي حافلاً بدلائل التجربة، فنسجلها وكفى، بل لا بد من استلهام جميعها معطيات هذا التراث، لاستنباط الأطر التي تحكمها والمعاني التي وراءها، ومن ثم بناء تكوينات حضارية نفيد منها في مجال حياتنا لما تضم من خصائص تعبر عن ذاتية الإنسان في مجتمعنا وعن آماله وتطلعاته في الحياة.
وإذا كانت عملية جمع التراث وتدوينه من المهام الصعبة فقد توجب أن يكون القائم بهذا العمل على درجة عالية من الاستعداد للعمل الدؤوب والنشاط المتجدد، للوصول إلى أدق خصوصيات المادة المراد جمعها على جميع الصعد، وهذا يتطلب أن يعايش جامع التراث مبدعي هذا التراث، حتى يتمكن جامع التراث متابعة أشكال تعبير المبدع، وأساليب عطائه، فضلاً عن مسيرة المبدع الإبداعية، في مجال عطائه، بشكل يجعل المبدع يطمئن لجامع التراث ويبوح له بكل ما يتعلق بمجال إبداعه، كما لا بد أن يصارح جامع التراث من يتعامل معهم من مبدعي التراث بالأدوات التي يستعملها من تصوير وتسجيل وتدوين حتى يكتسب المزيد من ثقة المبدع.
وعند عدم إمكان استخدام أجهزة التسجيل أو التدوين، فإن على جامع التراث، أن يحفظ بذاكرته جيداً، ما يقوله الراوي (المبدع) ثم يدون ذلك فور الانتهاء من الحديث مع المبدع، كما أن على جامع التراث أن يحافظ جاهداً على حرفية الألفاظ والعبارات والمصطلحات التي يدلي بها الراوي، بشكل يميز بين ما يحكيه الراوي وما يضيفه جامع التراث من ملاحظات أو تعقيب.
ولما كانت أجهزة تسجيل الصوت لا تنقل تعابير وجه الرواة ولا تنقل انفعالاتهم، فلا بد من دعم التسجيل بالصور للراوي أثناء الحديث معه.
ومن جهة أخرى لا بد أن يستبعد جامع التراث كل مقاربة أو مقاربة بين ما يدلي به الراوي وما يدور بذاكرة جامع التراث وما يدونه من معلومات.
فضلاً عن ذلك فإن على جامع التراث أن يجمع المادة التي يقوم بجمعها أو تدوينها، من أكثر من راوٍ أو مصدر، لما في ذلك من إمكان الوصول إلى معلومات صحيحة دقيقة لما يسعى إليه جامع التراث.
فإذا انتهت مرحلة جمع (مسح) التراث الشعبي وتدوينه، تأتي مرحلة دراسة وتحليل هذا التراث وتقويمه، لإعطاء هذا التراث هويته ومكانته، وهي مرحلة تهدف إلى ربط التراث بواقع المجتمع في ذلك الحين، وموازنة ذلك مع واقع المجتمع المعاصر، وصولاً إلى إدراك التغيير الذي طرأ على حياة الناس، والعوامل التي أدت إلى ذلك.
وما صاحب ذلك من أشكال التراث الشعبي لما لهذا التراث من القدرة على التلاؤم والتطور مع معطيات الحياة الجديدة التي يعيشها المجتمع نتيجة لتطور معطيات الحياة بين أفراده، الأمر الذي سيحول دون انقراض الكثير من أشكال هذا التراث، ونذكر على سبيل المثال ما كان في مدينة دمشق من صناعات تقليدية كان لها شأن كادت تخط طريق الانقراض لولا أن بعثنا بها التجديد بحيث تكون ملائمة لمعطيات حياتنا المعاصرة أو جانب من هذه المعطيات، ومن ذلك صناعة الزجاج التقليدية والأعشاب الطبية وغيرها من الصناعات التي جرى تطوير استخدامها فأصبح لها مكانة في جانب من حياتنا، وهكذا نجد أن استخدامات الزجاج المنزلية كالقطرميزات والكاسات أصبح لهذه الصناعة شأن في أعمال الديكور المعاصر، وكذلك الأمر في الأعشاب الطبية وما لها من شأن في استخدامات الأدوية، وعلى ذلك قس.
وإذا كان من المهم أن نعمد إلى مسح وتسجيل تراثنا الشعبي وتسجيله وإبقائه على صورته، فإن من الأهم صقل هذا التراث وبلورته وصولاً إلى تأصيل السلوك الفردي في المجتمع إزاء المفاهيم التي تطالعنا بها العولمة.
ولا يسعنا في ختام هذا البحث إلا أن نشير إلى دور المؤرخ والباحث والمثقف والفنان كل في مجاله حيال هذا التراث واستلهامه وطبع أعمالهم بطابعه، أما القول إن هذا التراث إنما هو من حطام الماضي، ومن بقايا رواسب حياة مضت، واعتبار الخوض فيه نوعاً من اجترار الماضي، فقد آن الأوان أن نتجاوز هذه المفاهيم، لأن هذا التراث شئنا أم أبينا إنما هو نحن، وهو وجودنا، وليس بمقدور أحد أن يقلل من شأن هذا التراث، بدعوى الحفاظ على ماء حضارتنا، إزاء حضارات الأمم الأخرى التي تفخر كل منها بتراثها الشعبي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن