قضايا وآراء

عندما يقامر الإنسان بأغلى ما يملك

| عبد المنعم علي عيسى

عصفت الضربات المتتالية التي تلقتها المعارضة السورية من كل حدب وصوب بأركانها ومرتكزاتها الأمر الذي أدى إلى تساوي «سقوف البناء مع أرضياته» في آن واحد، فقد كان إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 19 تموز الماضي عن وقف برنامج دعم وتسليح المعارضة السورية مقدمة لرقصة التعري، فيما يخص الحجم فقط، التي باتت مفروضة الآن، حتى إذا تلاه إعلان الدوحة وأنقره 15 آب الجاري عن توقف دفع «مستلزمات البقاء» تأكد أنه بات من الصعب الإصرار على أن ذلك الظل الباهت الذي كانت تسوقه وسائل الإعلام على أنه انعكاس الواقع لا يزال هو نفسه، ظهر ذلك في المؤتمر الذي دعت إليه الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض والذي انعقد يومي 21 و22 آب الجاري وحضرته منصتا القاهرة وموسكو في مؤشر يكشف مدى انصياع التوجه السعودي الجديد لمشروع هذي الأخيرة وانطلاقاً من براغماتية تسعى إلى المحافظة على حجم الدور دون تغيير على، الرغم من استحالة ذاك المسعى في ضوء تطورات الأزمة الخليجية القطرية التي ستأكل من الكتف السعودية أكثر بكثير ما ستأكل من الكتف القطرية بالتأكيد.
لم يكن لدى المعارضة السورية أو الرياض أوهام حول إمكان الخروج بوفد موحد إلى جنيف أو الوصول إلى تطابق مأمول، ولذا فإن المرامي التي هدف إليها المؤتمر تبدو نفسية للأولى وسياسية للثانية فالهيئة العليا للمفاوضات تريد إثبات (ولربما لذاتها أولاً) أنها لا تزال تمثل العمود الفقري للمعارضة السورية بدليل «نجاحها» في عقد المؤتمر، أما الرياض فقد سعت من خلال هذا الأخير إلى ترتيب البيت الداخلي المعارض في ضوء التطورات المتسارعة التي كرستها الأزمة الخليجية القطرية وفي ضوء الموقف التركي المتموضع هذه المرة بعيداً عن الرياض، وفي النهاية فإن رمي حجر كبير(بالنسبة للاثنين) في بركة راكدة هو شيء مفيد بعد أن خطفت الأضواء منها ولم تعد الفضائيات تحفل بالندابين أو المفتين أو أولئك الذين يقرؤون العربية من اليسار ولذا فهم يقدمون تحليلات خارقة تستحق أن تدون بماء الذهب كما فعل العرب بمعلقاتهم الخالدة.
إن نظرة سريعة للمنهجية التي اعتمدتها المعارضة السورية على امتداد حراكها تؤكد أن جميع الأفكار والمواقف التي تبنتها كانت تؤكد أنها تنتمي إلى المذهب «الإنجليكاني» الذي يولد في النفس إحساساً هائلاً بالثقة لدى معتنقيه كما يجعل من الناس البسطاء يشعرون بأنهم معادلون لأكبر المفكرين في العالم، ولذا فإن من شأن دراسة وتحليل عمل تلك المعارضة أن يؤدي إلى استنباط نمطية جديدة من المعارضات لم نكن نعرفها من قبل انطلاقاً من اعتبارها آنذ «الهدف» هو كل شيء أما «الحركة» فهي لا شيء، ومروراً بتحطيم جميع المقدسات الوطنية والتعايشية التي تعتبر عملية المساس بها، تحت أي ظرف كان، ضرباً من الجنون، ووصولاً إلى اعتبار الاستقواء بالخارج «ضرورة وطنية» وهذي الأخيرة كانت ثالثة الأثافي، فحتى في حال نجاح الفكرة كما حدث مع «الجلبية السياسية» في العراق فإنها ستؤدي إلى حدوث شرخ عمودي من الصعب ترميمه وإلى الآن وبعد مرور 14 سنة على دخول الجلبية السياسية العراقية بنيان السلطة في بغداد لا يزال هذا الأخير يغالب بقوة لطمس ذلك التيار كشرط لازم لترميم ذلك الشرخ فكيف الأمر إذا ما فشلت كما حدث في الحالة السورية؟ والماء، الذي يأتي من مكان بعيد لا يستطيع أن يشارك في إخماد حريق قريب كما يقول المثل الصيني.
بقي أن نقول: إن المعارضة السورية قد قامرت بأغلى ما تملك ولا بد لها من الاعتراف بأنها قد هزمت في معاركها الحضارية والفكرية قبل أن تهزم في معاركها العسكرية، والمطلوب الآن هو مراجعة شاملة تضع الحقائق كما هي نصب الأعين وتبني المرتكزات على أساس الحجوم الحقيقية لا على أساس «البوالين المنفوخة» ثم تعلن توبتها لعل الشارع السوري يقبلها، أما النظام فهو على الأرجح أنه فاعل، انطلاقاً من نظرة شمولية مسؤولة لم يستطع أولئك إدراكها حتى الآن ولا هي تدركها حساباتهم.
في الغضون يبدو أن هناك سؤالاً يفرض نفسه: أين «هيئة التنسيق الوطنية» المعارضة اليوم؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن