ثقافة وفن

حداثة الفكر السوري في بناء دولته العصرية .. لم تستطع الزلازل والاجتياحات وحملات الغزو أن تنهي دمشق التي تعود أفضل مما كانت

| نزار نسيب القباني

أتى على دمشق الشام في تاريخها، أيام رخاء ونعمة، وأيام بؤس وشدة، فما أبطرها الرخاء ولا قضت عليها المحن، لأن الله تكفل بالشام وحراستها، فلما عمها ذلك النور بالفتح الإسلامي، جعل لها نكهة خاصة فريدة في الدنيا كلها، فتحها لتكون للناس كافة، على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم وعروقهم، يعيشون فيها في نسيج عجيب وفي فسيفساء رائعة من كل الألوان والأشكال، عاصمة الدنيا قاطبة، بل أم الدنيا أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، شامة على جبين الدهر.
فامتد حكمها بين الأندلس والسند وبين القسطنطينية وأواسط إفريقيا فارتفع بها العالم ونشرت في الدنيا حضارة عظيمة.
ثم حلت بها النكبات من غزو أجنبي إلى أن حط بها الطاعون واجتاحتها الزلازل المدمرة.
ونهضت دمشق من كبوتها وأعادت ما خربته الزلازل والمحن واستأنفت الحياة كأحسن ما تكون الحياة.

دمشق وتاريخ المأساة
وعادت الكوارث والمآسي إلى دمشق، إثر الحرب الأخيرة الطائشة محققة الدمار والخراب، هدفها القضاء على ما فيها من بشر وحجر وإنسان وحضارة (وتهديم الآثار الإنسانية التاريخية والحضارية وسرقتها شاهد على ذلك) وعادت دمشق من جديد لإعادة بناء نفسها.
دمشق أول الدول العربية استقلالاً وريادة في الديمقراطية والحرية دولة مدنية لا طائفية ولا عرقية، تحترم جميع الأديان والمعتقدات على السواء، وتكَرّسَ ذلك في جميع دساتيرها منذ الاستقلال وحتى اليوم وتُقر حق احترام دور العبادة وممارسة الشعائر الدينية لجميع أبناء الطوائف والمذاهب والأديان.
إننا اليوم ونحن نتطلع إلى بناء دولتنا العصرية ندعو إلى ضرورة استخدام أهم آلية في الحضارة الحديثة وهي المنهجية العلمية والأسلوب الرقمي والدولة الإلكترونية وإدخال المعلوماتية إلى كل مكان.
إن تحديث العقل السوري هو المستلزم الأول للانتقال إلى المنهج العلمي ليكون نظرة إنسانية شاملة تسع جميع أبعاد حياة الإنسان السوري الروحية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
فهي إذاً المشكلة الأولى وجميع المشكلات الأخرى المتعلقة بها علة ونتيجة، وأن يعم هذا التحديث الإدارة والمواطنين، الحكام والمحكومين.
علينا إعادة صياغة جميع القوانين من جديد لا بترقيعها مستندين إلى أسلوب التصفير الذي يعرفه علماء الرياضيات، أي الانطلاق من الصفر بشكل علمي ممنهج هادف مجرد وعادل بلغة سهلة وواضحة غير قابلة للتأويل والتفسير بعيدة عن السياسة والأفكار المتناحرة وألا تكون على قياس أشخاص أو أفراد محددين.

القانون والفكر الإنساني
قوانين متجددة وفق الفكر الإنساني المتجدد. قوانين تفي بحاجة الأجيال القادمة المتطلعة إلى بناء دولة تنموية رشيدة تحقق الرخاء والبحبوحة والحياة السعيدة لهم ولأبنائهم من بعدهم.
إن الموضوع الرقمي وصحته في التنمية هو الأسلوب العلمي الصحيح لتحقيق الاقتصاد الوطني المتين وتحقيق الرفاهية لأن الإنماء هو قياسات إحصائية للماضي والحاضر تبنى عليها توقعات المستقبل وخططه شبيهة اليقينية فإذا فقدت أو بطلت حسابات الماضي والحاضر فكيف تستقيم توقعات المستقبل وخططه؟
لذلك يجب أن تتوافر المصداقية والشفافية بين الدولة والمواطن وبين الدولة ومؤسساتها المختلفة لتقديم المعلومات والمقدمات الصحيحة للحصول على نتائج علمية دقيقة.
الديمقراطية والتنمية من أهم ثوابت الحداثة الفكرية وانطلاقها، أما الحديث عن الديمقراطية فليس المهم شكل الحكم وأسلوبه بل الأهم الإيمان بالفكر الديمقراطي ممارسة وتطبيقاً، وعدم الاستئثار بالرأي في جميع المؤسسات حكومية أم مدنية أو أهلية وأن تترافق الديمقراطية السياسية مع الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية لتحسين واقع إعاشة المواطن السوري وسبل بحبوحته حينها تكون التنمية الحقيقية، وأن يتوافق هذا الفكر الديمقراطي مع الإنسان السوري منذ ولادته.
أما حق المواطنة فعلى العقل السوري أن يحترم القوانين وسيادة القانون وأن يقوم بتأدية واجباته تجاه الدولة قبل المطالبة بحقوقه وأن يكون العلم والكفاءة والنزاهة، وحق المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص بين الموطنين هو معيار المواطنة الصالحة.
أما العدالة والتنمية فقديماً يقال (العدل أساس الحكم) نتطلع إلى العدالة الحقة لا عدالة الإغريق التي تقول: (العدالة هي الأقوى بل هي مصلحة الأقوى).
ولا عدالة الجاهلية التي تقول: (إذا أخطأ القوي تركوه وإذا أخطأ الضعيف أقاموا عليه الحد).
إن العدالة والمساواة أمام القانون واستقلال القضاء نصاً وواقعاً وعدم سيطرة السلطة التنفيذية أو أي جهة أخرى عليه أو التدخل في شؤونه، وتنفيذ أحكامه وعدم توظيف القضاة كمستشارين قانونيين لدى السلطة التنفيذية كي لا تفقدهم مركزهم الحيادي استناداً إلى مبدأ فصل السلطات وحق تعيينهم كقضاة وترفيعهم ونقلهم وعزلهم ومحاسبتهم من السلطة القضائية واختيارهم وفق الدرجة العلمية البعيدة عن الوسائط والمحسوبيات مما يحقق مجتمع العدل والمساواة المنشودين.
وممارسة الحرية المنضبطة المسؤولة فكراً وقولاً وعملاً هي أهم العوامل المنتجة والمؤثرة في التنمية المستدامة لتحقيق المجتمع المتكافل المتضامن هدفه الحياة الحرة الكريمة المسؤولة.
أما الثقافة والتنمية، فإن تحديث القيم الثقافية السارية في أكثر الدول مرتبطة ارتباطاً تراثياً بتقاليدها الدينية والثقافية والدين، ما يجعل في بعض الأحيان من العسير التمييز بينهما ويجعل من العسير التحديث القيمي وعلاقته بالتحديث الإنمائي من دون تناول التجديد الديني في خطابه للمجتمع وعلاقته به.

التحديث التربوي
أما التحديث التربوي فهو مفتاح باب التحديث والإنماء، إن التربية هي تثمير في الرأسمال الإنساني والرأسمال الإنساني هو الثروة الوطنية الرئيسية، وإن أفضل ما نفعله لصنع رجال الغد هو أن نهيئ جواً ملائماً بواسطة المستثمرات الفكرية العامة، بل لأن نربي تربية إبداعية لا تربية مقلدة ولأن تنمو نمواً إبداعياً وتشجيع روح المبادرة الفردية والبحث العلمي والسلوك التنافسي- لدى أطفالنا في جميع مراحل التعليم الأولى وحتى الجامعي وما بعد الجامعي، وإلى تشجيع الدراسات العليا والعلمية بشكل خاص ودعم المخترعين وإقامة الدراسات الصناعية وربط هذه الدراسات بسوق العمل وفتح فروع جديدة تتوافق وهذا الربط.
أما التنمية والاقتصاد، فإن الاستقراء المقارن للتجارب الإنمائية الحديثة هو التصنيع، لذلك أصبح التصنيع غاية كل دولة وإحدى أهم ركائز الاقتصاد الوطني وبات بوسعنا أن نصف بشيء من الحصر الرواد الإنمائيين بأنهم الرواد المؤسسون والرواد المحدثون للصناعة على السواء وأن يكون تقدم الاقتصاد بشكل عام والصناعة بشكل خاص وفق الاختيار العلمي لكل مجتمع وهو الاختيار التجريبي لا الاختيار الأيديولوجي.
أي الاختيار العلمي الأمثل وفق الواقع والحاجة لكل دولة على حدة من دون الاختيار المقلد، وعلى ذلك فإن سورية عليها أن تأخذ فكراً اقتصادياً وفق واقعها العلمي الخاص بها، وأن يكون دعم الصناعة وتشجيعها لمصلحة المواطن والمستهلك السوري لا على حسابه وأننا نأمل ونحن نقرأ واقعنا الاقتصادي المستقبلي أن ندعم الصناعة من دون حدود، خاصة التصديرية منها، ومن دون مبدأ الحماية والبون واسع بين الدعم والحماية فالدعم لقيام صناعة وطنية قوية تستطيع الصمود والمنافسة والتطور تجاه جميع الأسواق المجاورة وغير المجاورة، أما الحماية فهي قيام صناعة على مبدأ الاحتكار والمزايا البعيدة كل البعد عن المنافسة وإذا قدر في زمن من الأزمان إلغاء هذه الحماية باتت هذه الصناعة المستندة إليها من الصناعات غير القادرة على البقاء والصمود.
إن تحديث عقلنا التجاري أن يقوم باستيراد جميع المواد المسموح بها لتأمين حاجة الأسواق مع ترشيد المستوردات الكمالية واستيراد المواد الأولية للصناعة ومستلزمات الإنتاج وتأمين الأسواق التصديرية للمصنعين فتكون مهمة التاجر الاستيراد والتصدير وفق مبدأ السوق الحر والمنافسة الشريفة والبعد عن الاستغلال والاحتكار والربح الفاحش، أما الربح الحلال فهو حق مقدس فلا تنمية بلا ربحية ويتطلب ترشيد الاستهلاك وتشجيع الادخار ودعم قيام الشركات المساهمة للصناعات الحيوية لتوظيف هذه المدخرات وتحويل الشركات العائلية إلى مؤسسات مساهمة أو محدودة المسؤولية للمحافظة على استثمارها.

السياحة والنمو
أما الدور السياحي في القطاع الإنمائي فهو من أهم القطاعات الرائدة في هذا المضمار فيتطلب تطوير السياحة ومنشآتها لتستوعب عدداً أكبر من الزائرين العرب والأجانب والترحيب بهم وخدمتهم منذ دخولهم الأراضي السورية وعدم استغلالهم أو ابتزازهم وتشجيع الاستثمارات الأجنبية والعربية والمغتربين في هذا المجال وتشجيع السياحة الداخلية والسياحة الدينية ما يتطلب إقامة العديد من المطاعم والمنشآت وأماكن تسلية للأطفال وفنادق الدرجة الثانية والثالثة لتتناسب أسعارها مع ذوي الدخل المحدود وأن تتمتع بالجودة العالية في الطعام والخدمة دون الفخامة المطلوبة في فنادق الدرجة الممتازة والأولى وتكون هذه المشاريع مغطية كل المحافظات السورية.
وتشجيع الصناعات التقليدية واليدوية وتأمين مدارس خاصة لهذه الصناعات والمحافظة على ديمومتها وتجديدها والمحافظة على التراث والفن الشعبي.
وأما الإنماء الاجتماعي: فيجب ألا ننسى دوره الرائد في التنمية وضرورة تطوير دور الحضانة ورعاية الطفولة والأيتام وأبناء الشهداء ورعاية المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة ومعالجة المشردين والجانحين والمتسولين وإعادة بناء الأسرة وهي البنية الرئيسية في المجتمع التنموي وخاصة بعد ما حل بها من التفكك الأسري والاجتماعي نتيجة الأحداث الأخيرة فيتطلب إعادة بناء النسيج الاجتماعي بشكل علمي وإدخال الطب النفسي لمعالجتها وبث روح المحبة للوطن والمجتمع والإنسان وتشجيع المؤسسات والجمعيات الأهلية التي تعمل في المجال الإنساني وتعمل على توطيد أواصر المحبة من خلال خدماتها في المجتمع.
أما التنمية والصحة فهو يتطلب بناء المزيد من المستشفيات لتغطي كل المساحات الجغرافية في القطر والعمل على تحقيق التأمين الصحي لجميع المواطنين وإعادة تطوير المستشفيات القائمة ومدها بالمعدات الصحية الحديثة والأجهزة الفنية والكوادر العلمية والطبية وتشجيع الصناعات الدوائية لتحقيق دورها الإنساني قبل التجاري وانعكاسه على صحة المواطنين وقديماً يقال (العقل السليم في الجسم السليم) وكذلك دعم الاستثمار الصحي للقطاع الخاص بإقامة المستشفيات لتصبح سورية واحة متميزة للسياحة الصحية لمعالجة الأمراض الدقيقة والمستعصية فتستقطب مرضى العالم العربي.

الإعلام والإنماء
أما الإنماء الإعلامي: فهي لغة إنسانية غايتها توعية كل إنسان لحقائق الإنماء والتقدم وهي لغة وطنية لأن الإنماء لجميع أبناء الوطن وهي لغة علمية لأن الإنماء هو العلم في خدمة التقدم الإنساني والوطني فالرائد الإنمائي الإعلامي هو من لا يقع فريسة انقلاب آيات التخلف وتصويرها بأعاجيب التقدم لإرضاء متنفذ أو مسؤول ما.
ولكنه يفضل بروح وطنية وعلمية صادقة أن يصارحنا في مقالاته الصحيفة والتلفزيونية والإذاعية والمواقع الإلكترونية بحقائق التخلف والأخطاء والتصرفات المشبوهة وإنارة الضوء عليها وخاصة الناتجة عن الفساد والفساد اليوم بات لغة العصر في أغلب الدول مع الأسف.
وإبداء رأيه في طرق إصلاح هذه الأخطاء والشبهات إن وجدت مصارحة صادقة غايتها إعادة البناء وفق أسس الحداثة المطلوبة إعادة بناء ما تهدم لا هدم ما بني، وعلينا ألا نخجل من الخطأ إن وقعنا فيه وخاصة إذا لم يكن مقصوداً لأن من لا يعمل لا يخطئ. فإذا وقعنا به فعلينا العمل على إصلاحه واجتنابه.
ولقد جاء اليوم دور الرجال البنائين لبناء نهضة سورية حديثة لدولة عصرية علمية متميزة بعيدة عن العثرات والأخطاء ما أمكن.
إن تحديث عقلنا السوري هو القضية التي تتوقف عليها مواجهتنا لجميع قضايانا المصيرية بمواجهة قويمة لأن عقلنا هو الذي يقرر مصيرنا ويؤمن لنا الحكمة السياسية بل الحكمة الإنسانية في وجهها الأبسط والأعقد حكمة اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب فلتتشابك أيدينا كل وفق موقعه التنموي للعمل على بناء الوطن وعلى إعادة بناء سورية دولة عصرية علمية وصدق اللـه العظيم حيث قال: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا باللـه).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن