ثقافة وفن

خضر عكّاري… حيث تتسامى الطبيعةُ شعراً على التاريخ ولغة الحضارة وقيمة الأرض ولد شعره

| أحمد محمد السح

يكتب «شاعر البلعاس» القصيدة منذ أوائل الصبا، لكنه لم ينشر إلا في عام 1984 فكانت مجموعته الشعرية الأولى ( الوجه الآخر)، حيث تتالت مجموعاته الشعرية بعدها عاماً بعد عام لتتباعد المسافاتُ زمناً في نشرها، لكنها لم تتوقف خفقاً وتنامياً، ليدخل مغامرة الكتابة للأطفال في ثلاث مجموعات هي (أناشيد الطفولة 1987 – تشرين يا صغار 1990 – وفراشات ملوّنة 1994) هذه المغامرة التي يحاذر الاقتراب منها كثيرٌ من الشعراء، لكن خضر عكاري الذي لم يفقد شغف الطفل، ولا «أنا» الطفل وهو يدرج في السبعين، فهو ما يزال باللغة المشاكسة نفسها، والمتألقة، لا تقطعه هموم الحياة عن الإيمان بوطنه سورية، أو عن ذرف الدمعة الصادقة حين يقرأ قصيدة أو مقطعاً، أو يتذكّر جملة عن حبه لسورية التي يحلم أن يعرّج على كل تفاصيل مدنها وقراها، وبواديها ليعطيها مساحة أوسع، رابطاً التراب بالأسطورة وبالتتابع الحضاري لهذه الأرض مبتعداً عن حالة الاختصار التي يعمل الكثيرون فيها على تقزيم الجغرافية بمدينةٍ، أو تعديل الديمغرافيا بمزاج قرونٍ أو عقود، فخضر عكاري دائماً متمسّكٌ بآلاف السنين التي كتبت والتي لم تكتب عن هذه البلاد، فهو مصرٌّ على أن يحكي كيف نبتت شجرة بطمٍ في البلعاس، وكأنه الشاهد الوحيد على هذا النبت:
وشمس «البلعاس» تقيم أفراح «البطم»
المشلوع..
وها.. جمرةُ نارٍ
تتوهج تحت رماد الأمس،
ونايٌ.. دمَّع عين الأرملةِ الـ«قعَدَتْ»
عاريةً،.. تتفلّى..!
هو الذي جعل من أرض البلعاس محطةً مهمة في شعره، فكتبها في ديوانه الثاني (سيرة البلعاس 1985) ثم أعادها في مجموعته ( بلعاسيات 1995) التي حققت قفزة كبيرةً في لغة القصيدة، أثارت النقاد والقرّاء والمتابعين، وأكثرهم المستمعون لشعر خضر عكاري وطريقته المحببة في إلقاء قصيدته، والتي يقالُ إن أحد الناس حينما عرف أن لخضر عكاري أمسية شعريةً، هرع لجلب جفت الصيد من بيته، فأوقفه أحدهم متسائلاً (هل تريد قتله؟) فأجاب الرجل، لا لكن مع قصيدة خضر عكاري، لابدّ من أسراب من الحجل والفري والعقبان والبواشق والطير الحرّ.. بهذه الطريقة وحدها كان لخضر عكاري بصمته:
اهدّئي.. من روعكِ،
وانشري معاطف الفصول،
وغلّي.. «درغلّةً» في خوف الزمان الغرائبيّ،
يا دماء العصافير
ها هي..
جراح التاريخ تتفتقُ،
ويلفلفُ آذارَ..،
وجعُ.. الصباحات.
يتكئ خضر عكاري على التاريخ، وعلى لغة الحضارة التي أعطت لهذه الأرض قيمتها، الحضارة التي يؤمن إيماناً راسخاً أنها ولدت هنا، لكنه لا يتاجر بهذا الإيمان في زمن بات فيه المتنفعون والوصوليون يكررون جمل الإيمان بحضارة هذه البلاد حتى أفرغوها من محتواها لكنه وحده لا يريد من هذه البلاد سوى أن تحبّه كعاشق، وكشاعر:
«سريتُ» بقافلات القصائد.. الـأتعبتني
عناوينها.. الفارّة.. من مداعبة أنوثتها..
المشوهةِ.. قدّام.. مداخل المزارات..،
مرميةً..،
تداعبُ.. حروفها..
شهقةُ.. الفصول..!
يريد من بلاده أن تحفظ حكايته كما في ديوانه (سومريات 1996) حيث حكى الحكاية ربطاً بين البلاد السومرية ونقشها، مع نقش قلبه في الحياة ولده سومر، الذي اختار اسمه كما لم يختر حيه لبلاد السومريين، فهذا الحب يجده متماسكاً قوياً جسوراً، يأخذه من البحر إلى تخوم أفاميا العاشقة التي قدمها في مجموعته (أفاميا العاشقة 1996):
«أفاميا..
الغافية..
بين البحر والبادية..،
تفرد جدائلها للريح
تتنهد..،
تتململُ..،
أقدامها الحافية..
في نزق الرمالْ»
لا يبحث الشاعر خضر عكاري كثيراً عن مفرداته فهي تتلطى له في زواريب حارته التي تسرح به إلى أقاصي البلاد.. التي يعيش لأجلها، حيث يحضر الوعلُ والغزال، البطم والسرو، الفراشةُ والنسر، والسنونو، تعيش الطبيعةُ في قصيدته التي لا يمكن لك أن تقرأها من دون أن تعبق رائحة الشيحِ من مفرداتها، هو الشاعرُ الألق الذي اختار فرادةَ لغته، سهواً لا عمداً فهي الفرادةُ التي يتعشقها، لأنها جزءٌ من كينونة روحه المعجونة بشقائق النعمان والتي أفرد لها مجموعة (شقائق النعمان 1994) هذه الأزهار التي تطوق مدينته سلمية التي قال فيها الكثير:
«سلميةُ الحزن مجبولٌ بخاطرنا
لمي الحنين ورشّي دربنا، حبقا
(سلميتي) من نزيف الجرح قافيتي
أنت القصيد فكوني صحونا، الألَقا».
تستمر قصيدة خضر عكاري بالنزق نفسه والأنفاس نفسها، رغم المحاولة الدائمة بتغييب وجهه عن الظهور الإعلامي في زمنٍ باتت هجرة الشعراء لعزلتم طقساً تمارسهُ التلفزيونات والإذاعات، هو الذي قال عنه صديقه الشاعر «محمد علي شمس الدين»:
(لأننا نرى في خضر.. خطوة في الشعر يحسن أن نتناولها بدراية أبعادها ودلالاتها، نشم لدى الشاعر إيماءً لرغبةٍ في تفرّد.. ما لدى خضر عكاري نقلات شعرية، كأنه يعيش زماناً مجزّأ؟! وتباشير شعرية خصوصية تومئ للمستقبل).
تتوالى النصوص إلى الآن وتنتظر إبصار النور مع دور النشر، هذه الأعمال التي تستحق الكثير من الأبحاث والإضاءات فلا تكفيها مقالةٌ هنا أو هناك، ففي شعره الطبيعة، وفرادة اللغة، ووحشي الحرف، تفصيح العامي، وإيجاد الجذر اللغوي له، وفيه السيميائية، وإعادة التشكيل الفني للنص على الورق، فيه الخطابةُ والغنائية والعمود والتفعيلةُ وقصيدةُ النثر.. والمزامير وفيه الهمسُ والبوح، تقلّب في صفحات مجموعاته التي صارت بالعشرات، فتجد الطزاجة والروح التي لا تشيخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن