ثقافة وفن

أخاف على المنحوتة وكأنها روح حية وليست قطعة من الحجر أو الخشب … روبا كنج لـ(الوطن): في الخامات هناك الكثير من الرقة والحنو

| سوسن صيداوي

في العائلة.. إما أن تكون سندا ومشجعا لطفلك في كل خطواته التي يخطوها في طريق الحياة، أو تختار أن تكون الرب المخالف لما ذكرناه. وما يهمنا هنا الحالة الأولى فهي الركيزة في البناء على كل الصعد، الصحة النفسية، النضوج الشخصي، الفكر المنطلق، الثقة العالية، والقدرة على الصبر والتحدي. وفي النتيجة يكون الشخص تم العمل عليه بالطريقة المثلى كي يكون ناجحا وبنّاء وفاعلا في المجال الذي اختاره في حياته. روبا كنج خريجة كلية الفنون الجميلة قسم النحت، ترعرعت موهبتها في الرسم والنحت في كنف عائلة مهتمة وعلى قدر كبير من العلم والإدراك، فسارت الابنة على خطا الأهل، وتابعت كي تحقق حلمها في النحت، واليوم في التدريس في الكلية إلى جانب الشباب، حاضرة بطاقتها المتجددة بقربهم دائما، داعمة ومدركة لكل مشاكلهم. صحيفة «الوطن» التقتها وإليكم الحوار.

في البداية حدثينا عن نشأتك؟
أنا من مواليد محافظة طرطوس، هواياتي في الطفولة لعب الجمباز والرسم. في مرة وأنا في غمرة حديث مع أبي، وبالرغم من عمري الصغير، قلت له جملة حتى اليوم لن أنساها «الرسم في دمي» وبقيت حتى اللحظة أتابع الرسم وأستمتع به. بصراحة لم أخطط للانتساب إلى كلية الفنون الجميلة، حتى صف التاسع الإعدادي عندما انتسب إليها أحد أقربائي، ومن وقتها أصبح الرسم هدفا في إكمال دراستي. ومن الطرافة بأنني تقصّدت أن يكون مجموعي جيداً كي لا يقترح علي الأهل بأن أدخل كلية الهندسة المدنية، وهكذا حصلت الأمور بسلاسة، وتقدمت إلى المسابقة ونجحت. شعرت في البداية بالضياع في ثنايا وفراغ البناء واتساعه، وبين اختلاف جو دمشق عن طرطوس، ومرّ العام الأول لدراستي وأنا في هذا الضياع. بعدها استهواني النحت كثيرا، وكان اختياري لاختصاص النحت غريبا عما يرغبه الطلبة ويسعون إليه في الاختصاصات، فالأغلبية الساحقة تتجه نحو اختصاص الديكور وتصميم الإعلان لمردوده المادي ومستقبله أفضل. وهنا لابد لي أن أذكر جملة قالها لي الأستاذ علاء محمد قبل مسابقة الكلية وهي «خط يدك خط نحات»، وبالطبع كان الأهل متعاونين ومساندين لي، لهذا اخترت النحت. في الفترة الأولى شعرت بالاستغراب، ولكن مع مرور الوقت تعودت عليه، واجتهدت في هذا الاختصاص الذي اخترته، وتخرجت بالمرتبة الأولى على دفعتي، وكنت باشرت بالماجستير، ولكن بسبب الظروف السابقة عدت إلى محافظتي طرطوس، ولكنني اليوم في دمشق.

ماذا عن العائلة.. هل من أحد كان يرسم؟
للفن في منزلنا مكان واسع، والدتي لديها ميول فنية ولو كان الأمر متاحا لها لتابعت دراستها في كلية الفنون، وهي ترسم باعتبارها مهندسة مدنية، وكذلك والدي مهندس مدني، وحتى أختي الصغيرة تعزف على آلة التشيلو.

ذكرت بأنك اجتزت امتحان القبول ببساطة، ألم تخضعي لدورات؟
حتى لو كان المرء موهوبا، فعليه أن يخضع لدورات تصقل موهبته. بالطبع خضعت لدورة تدريبية عند الأستاذ علاء محمد كي أجتاز امتحان قبول الكلية، والأمر الطريف بأن امتحاننا في الرسم جاء مختلفا عما يطلبونه في العادة، لم أهتم أو أرتبك. رسمت ونجحت في الامتحان الرصاصي والمائي بجهدي دون أي حاجة إلى الوساطة التي يشاع بأنها كثيرة في الكلية، وحتى في سنواتي التالية لم أتعرض لهذا الوضع.

كيف تتعاطين مع الحجر كونك أنثى رقيقة العود؟
أنا أقول دائماً بأن الخامات مهما كان نوعها حجراً أو معدناً أو خشباً أو صلصالاً، فيها الكثير من الرقة والحنو، إذا تعامل معها المرء بالشكل الصحيح، فهي تحتاج الذكاء أكثر من القوة. كما أن الأدوات الحديثة سهّلت الموضوع، وأنا أشبّه التعاطي مع الخامة بأنه عراك فيه الحب، لا القسوة والعنف، ولكننا لا ننكر بأن الحجر بالتحديد، ممكن أن يتغلّب على النحات لقساوته، لهذا أفكر دائماً حتى لو غلبتني القطعة بأنني لن أيأس، فهو أمر طبيعي ووارد، وفي حالها عليّ فقط أن أبحث عن الحلول البديلة كي لا أشعر بالإحباط وأمتنع عن متابعة نحت القطعة.
ألهذا السبب يكون الحجر في حالة من الخلق الدائم، وكأن النحات يبدأ معه في تصور ويخرج بتصور آخر؟
هذا صحيح.. وبالنسبة لي أجد أن هناك عوامل بصرية تتحكم بي وتسيطر علي، وخاصة عندما تكون المنحوتة كتلة كبيرة.

المرأة النحاتة في نماذجها تعكس المرأة التي داخلها.. ما رأيك؟
تتجه الأغلبية العظمى إلى نحت المرأة، باعتبارها كائنا جميلا، ولأنها تشبه الطبيعة الأم بكل عناصرها. وعادي الأمر أن تكون القطع التي أنحتها إلى حدّ ما مشابهة لي، كما أن العلاقة بيننا قوية جدا، وفي مراحل إنجازها أعاملها وكأنها روح حية وليست قطعة من الخشب أو الحجر… فأخاف عليها كثيراً.

لماذا المرأة ليست واضحة الملامح في منحوتاتك؟
ربما لأنها لا تستطيع أن تعبّر عما داخلها، أو لأنها تخفي أفكارها ومشاعرها ولا تبوح بها. وبعيداً عن الملامح هي مقروءة لي، لأننا من نفس الطبيعة، وأحب أن أجسدها بأنها قوية وثابتة بالأرض.

العري في منحوتاتك لطيف ولا يخدش الحياء؟
صحيح لأنه ليس أساسي في القطعة، وخاصة أننا اليوم أمام اتجاهين متناقضين، متطرف ومنفتح، أنا لست مع الاثنين، فجسد الأنثى جميل وعريها جميل وليس فجا، وهو غير ذاهب باتجاه الإباحة أو الوقاحة، وهدفي من المنحوتات أن ينتبه المشاهد مثلا إلى حركة الرأس وليس إلى الجسد، وبالطبع هذا الأمر مختلف حسب النحات ومفاهيمه.

ماذا عن التدريس في كلية الفنون الجميلة؟
عند عودتي من طرطوس في عام 2016، تواصلت إدارة الكلية معي لأن هناك نقصا كبيراً في الكوادر الشابة مع وجود أساتذة أصبحوا في سن التقاعد، وبالطبع لا أقصد الإساءة لهم أبدا، فخبراتهم لها قيمتها وأهميتها، ولكن المشكلة في بناء جسر من التواصل مع جيل شاب، فأسلوب هؤلاء الأساتذة أصبح بحكم فرق السن بعيداً عن تفكير الطلبة أو نظرتهم للأساليب الحديثة، وبالتالي توجهت الإدارة في الكلية إلى تنظيم عقود سنوية لنا كي نقوم بالتدريس، وبحكم تقارب العمر بيننا وبين الطلبة، أصبحوا يعاملوننا كزملاء ما يجعل الأمور أسهل في التعرّف على أفكارهم أو طرح مشاكلهم وخاصة عندما يرغبون في العمل بالأسلوب الحديث. وبالفعل تجربة التدريس جميلة جدا، وتغنيني بالكثير من الأفكار والتجارب.

ماذا عن الرسم هل من الممكن أن تتركي الإزميل وتتمسكي بالريشة؟
أنا في حالة دائمة لرسم التصاميم، والأمر ليس بمستبعد بأن أتجه إلى الرسم وخاصة بأن لدي بعض تجارب الرسم بالزيتي، ولكنني حتى اللحظة أجد نفسي نحاتة وأسعى دائماً إلى تطوير موهبتي.

في الملتقيات تكونين جنباً إلى جنب مع أساتذتك في الكلية والفنانين الكبار.. كيف يكون شعورك برفقتهم؟
هذا أجمل ما تقدمه الملتقيات، فخلالها أتعلم منهم الكثير وأتأمل كيف يقومون بتنفيذ منحوتاتهم، منهم الأستاذ أكسم عبد الحميد والأستاذ عفيف آغا ومحمد بعجان والدكتور إحسان العر، وخلالها ثناؤهم على عملي ومجرد جملة «عملك جميل»، تعطيني الكثير من الدفع حتى ولو تسببنا بتخريب القطعة، فبحكم خبرتهم الكبيرة هم قادرون على تهدئتنا ومساعدتنا على خلق البديل.

ماذا عن المردود المادي في الملتقيات؟
المردود المادي ضعيف جداً، وللأسف الشديد تقدير النحات ليس كباقي الفنانين.

في سورية النحاتات قلّة؟
هذا صحيح.. فالطلبة في الكلية بشكل عام يقومون بالاختصاص بالأقسام التي ستدّر عليهم أموالا في المستقبل، لهذا قلة من يختصون بالنحت، والأمر المؤسف في فترة سابقة كان عدد النحاتات الخريجات أكبر ممن هنّ حاضرات اليوم في سورية.

نظرة الفنان للآثار والتحف مغايرة للآخرين.. كيف كانت نظرتك لما ألمّ بالآثار السورية من تخريب ودمار؟
كلّ ما حصل لسورية يحزّ بالنفس ويبعث فيها الحزن والأسى، ومن الطبيعي عندما يتعلق الموضوع بالآثار، أن ينهض الجميع ويعبّر عن رفضه لما تم من تدمير وتخريب، فالآثار هي هويتنا وتعبّر عنا، وأنا أشعر بروح الحجر، وأراها الذاكرة الحاضرة والشاهد العيان لحيوات كل الناس الذين مروا بالمكان، وعندما أسير بينها أسمع الأصوات والهمسات. ولابد من الإشارة إلى أن الكثير من خريجي الكلية يقومون بترميم الآثار بجانب خريجي كلية الآثار والمتاحف بالتعاون مع الجهات المعنية، وبرأيي خريجو كلية الفنون هم الأقدر وأتمنى المساهمة في إعادة إحياء ما تمّ تخريبه.

كلمة أخيرة لخريجي الكلية الذين لحقوا مسرعين بركب السفر؟
طبعا للكل الحرية في الخيار، ولكن أتمنى ممن ظروفه جيدة وقادر على البقاء في وطننا سورية، أن يبقى في هذا الوقت ولا يتخلى عن سورية لأنها بحاجة لخبراتهم وسواعدهم الشابة القوية لأجل البناء، فهذه الأرض وطننا وستكون الأمور أفضل في المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن