قضايا وآراء

إسرائيل أي متغيرات؟!

| عبد المنعم علي عيسى

أعلن جيش الدفاع الإسرائيلي في 4 من أيلول الجاري عن مناورات تستمر لأحد عشر يوماً ويشارك فيها 30 ألف جندي، ما يعني أنها الأضخم منذ المناورات التي جرت في عام 1998 وكانت تحاكي حالة حرب يمكن أن تخوضها تل أبيب على جبهتين في آن واحد.
إن الخبر يبدو عادياً إلى هنا، بل إن عدم القيام بمثل هذه المناورات، وبكثافة كبيرة، هو الأمر غير العادي بالنسبة لكيان قام أساساً على الحروب، أو هو يستمد منها مبررات وجوده واستمراره، وغير العادي، ضمن الخبر، يكمن في التفاصيل التي تقول: إن المناورات تحاكي صد هجوم عنيف يمكن أن يتعرض له الشمال الفلسطيني المحتل، وقد يتخلله إنزال بحري جنوب حيفا من شأنه أن يؤدي دوراً داعماً له، كما يحاكي تجربة إخلاء للسكان من مناطق تمت مهاجمتها، وبمعنى آخر أن السيناريو يحاكي وضعا تكون فيه إسرائيل في موقع الدفاع عن النفس لا الهجوم، كما كان الأمر عليه على امتداد سبعة عقود أو يزيد، فأي متغير فرض تلك الانعطافة البالغة الأهمية؟
قامت الإستراتيجية الإسرائيلية على وجوب أن تجري المعارك على أرض الخصم، لأن إسرائيل لا تملك العمق الجغرافي الذي يمكنها من احتواء تداعياتها، على رأي المؤسس ديفيد بن غوريون، ناهيك عن أن المنظر الصهيوني الأهم زئيف جابوتنسكي، كان قد أوصى بأن العصابات تدخل مرحلة الموت الحقيقي عندما تصبح في وضع دفاعي، وعليه كانت لتلك الإستراتيجية التي لا تعرف سوى الهجوم، منعكسات عديدة هامة مثل «الحرب الاستباقية» وتوسعة المدى الذي يبدأ الدفاع عنده عن الأمن القومي الإسرائيلي، طالماً أن القدرات تسمح، ناهيك عن أن جميع الذرائع التي كانت تستخدم لتبرير الاعتداءات التي تمارسها الأجهزة الإسرائيلية في كل حدب وصوب، تتستر تحت راية ذلك الأمن الذي ظهر وكأنه يبدأ عند القطب الشمالي وينتهي عند نظيره الجنوبي.
لم تكن مصادفة أن يتزامن الإعلان عن تلك المناورات، مع تقارير كانت قد نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية وهي لضباط إسرائيليين كبار كما قالت، ومفادها أن حزب اللـه بات الآن هو الجيش الثاني في المنطقة بعد الجيش الإسرائيلي، وهو يملك قدرات استثنائية تخوله قيادة حرب بألوية عدة، أي خوض حرب تقليدية لا حرب عصابات، ولربما كان ذلك هو ما تريده تل أبيب، كما يملك القدرة على تنفيذ غارات هجومية بطائرات من دون طيار، ناهيك عن قدراته العالية في جمع المعلومات الاستخباراتية الحاسمة، ولربما كان جميع ما ذكر صحيحا إلا أن عنصر المبالغة يبدو طاغياً بدرجة كبيرة على كامل المشهد.
نحن هنا لا نقلل من قدرات حزب اللـه أو نهضمها حقها، فهي لا تحتاج شهادة من أحد لأن ميادين الأحداث تشهد لها، لكن كما يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها، صحيح أن التقرير الإستراتيجي الذي تصدره تل أبيب سنوياً كان قد أكد لهذا العام أن حزب اللـه يقع في رأس قائمة الأخطار المحدقة بإسرائيل قبل إيران وحماس، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن تل أبيب لم تعط جيشاً من جيوش المنطقة، حق تقديره في يوم من الأيام، حتى الجيش التركي الذي لا يصنف في خانة الأعداء، كانت تلصق به شتى توصيفات الازدراء والاستهتار، فلماذا تعطي حزب اللـه الآن حق قدره الذي نرى فيه حيزاً واضحاً من المبالغة، ولا نعتقد أن قيادة الحزب ببعيدة عن هذه النظرة الأخيرة أو التقييم الأخير.
يمكن تبرير ما ذهبت تل أبيب إليه بأحد أمرين: الأول أنها تسعى إلى شد عصب الجبهة الداخلية التي باتت تبدو لصانع القرار السياسي الإسرائيلي وكأنها تمر بحالة استرخاء قصوى في ظل إحساس عميق بغياب المخاطر الخارجية التي تتهدد الكيان، والثاني أن حزب اللـه قد بات الآن في دائرة الهدف الضيقة، وما يعزز هذا الاحتمال الأخير هو تلك الرسائل الصادرة بكثرة مؤخراً عن تل أبيب وأبرزها ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 6 من أيلول الجاري حين قال: إن التقارب الحاصل ما بين إسرائيل وبين العديد من الدول العربية هو تقارب هائل وغير مسبوق، وربما كانت تلك الرسالة حمالة أوجه عديدة، إلا أنها من دون أدنى شك كانت تريد أن تقول لحزب اللـه إن المناخات الإقليمية قد تغيرت كثيراً عن مناخات تموز 2006، صحيح أن العديد من دول المنطقة، ودول الخليج تحديداً، لم تكن داعمة لحزب اللـه ولا تخفي «عدم حبها» له، إلا أنها لم تكن تصنفه على لوائح إرهابها وللأمر اعتباراته المتشعبة.
فشلت محاولات اختراق الحزب داخليا، أو هي لم تعط سوى النذر اليسير مما هو مطلوب منها، كما فشلت محاولات حصاره في الداخل اللبناني وفي المحيط، أو هي لم تعط أيضاً ما هو مرجو منها، ولذا لم يعد مجديا سوى تجريب محاولة الاقتلاع من الجذور، وما يعيق عملية الإقدام على هذه الخطوة الأخيرة هو حساسيتها المطلقة في الذات الجماعية الإسرائيلية، فالذي سيعطي أمر النار، سوف يكون قد أعطى، في حال خطأ الحسابات، حكما بالإعدام على نفسه وعلى الكيان الذي يدافع عنه أيضاً، وخسارة الحرب على النمط «التموزي» ستضع هذا الكيان على مفترق طرق حقيقي، بعدما تكون حالة الكسل الوظيفي للكيان قد ضربت أطنابها وبعدما تكون الثقة قد اهتزت نهائياً بالجيش الذي لا يقهر، وعندها لن تكون عمليات «الماكيير» و«البوتوكس» المستخدمة منذ 2006 سوى عمليات لتشويه الوجه والجسد الذي شاخت خلاياه دون جدوى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن