ثقافة وفن

تشي غيفارا: علمني وطني أن دماء الشهداء هي التي ترسم حدود الوطن

| مها محفوض محمد

خمسون عاماً على رحيله ومازال يأسر العقول ويحتل مساحات في القلوب وفي وعي الشعوب، الرجل الذي أصبح رمزاً للأحرار في النصف الثاني من القرن العشرين وصورته الأكثر شهرة في العالم بل في تاريخ التصوير الفوتوغرافي.
أرنستو تشي غيفارا (وكلمة تشي تعني الرفيق) المناضل الذي طرح نظرية «الثورة العالمية ضد القوى الإمبريالية» ومثل حالة التمرد الفردي والشراسة في الدفاع عن المظلومين بعيداً عن الأحزاب والحركات المنظمة.

من ألتا غراسيا في الأرجنتين حيث ترعرع غيفارا إلى لاهيغيرا القرية الصغيرة في عمق بوليفيا حيث قضى الثائر ساعاته الأخيرة مروراً بـسانتا كلارا في كوبا أرض المعركة التي مكنته مع فيديل كاسترو من الإطاحة بنظام باتيستا، هذه الأماكن جميعها بسكانها يحيون اليوم الرجل الذي أصبح أيقونة.
في الثامن من تشرين الأول عام 1967 قوات من الجيش البوليفي مصحوبة باثنين من عملاء السي أي أي تلقي القبض على غيفارا وعدد من رفاقه بعد معارك طويلة في الغابات أصيب فيها مرتين وكانوا منهكين من الجوع والمرض، اقتيدوا إلى مكان قريب من لاهيغيرا وفي اليوم التالي قام الرقيب ماريو تيران بإطلاق النار على غيفارا فواجهه بالقول: «أطلق النار يا جبان فإنك لن تقتل سوى رجل»، وفي كل عام بين 8 و9 تشرين الأول يأتي الكثير من الحجاج لإلقاء التحية على الذي يسمونه «القديس إرنستو غيفارا» كما يعتبره الكثير من الفلاحين والهنود في بوليفيا، فهم مازالوا يقيمون القداس على روحه إذ قالوا يومها: «إن ملامحه كانت أشبه بملامح السيد المسيح « لقد كان أقوى من الموت والعذاب، وهذا ما عبر عنه الشاعر الفرنسي سيرج بي في تشبيهه لمسيرة غيفارا في تلك المعركة بمراحل درب الجلجلة، فهو من الأبطال الذين لا يموتون أبداً في قلوب وعيون الناس».
ولإحياء هذه الذكرى تم نقل المتحف الذي يتضمن سيرته وأقواله وصوره من مركز المدينة في فاليغراند إلى مكان قريب من المطار حيث رمي جثمانه مع رفاقه هناك في حفرة.
شخصيات كثيرة وكتاب من القوى اليسارية في العالم عبروا في هذه المناسبة عن تقديرهم وحبهم لهذا المناضل الكبير، منهم الكاتب المختص بتاريخ أميركا اللاتينية والناشط السياسي الفرنسي جان أورتيز الذي كتب في صحيفة لومانيتيه تحت عنوان: « تشي غيفارا يوفق بين الأخلاق والسياسة» يقول:
ويمضي الزمن ليكتمل نصف قرن على رحيل «تشي» كيف نفسر في العام 2017 استمرار جاذبية هذه الشخصية وتأثير سحرها على الناس؟ في هذا الزمن الرديء كلما اتسخت أيادي السياسيين الليبراليين تذرعوا بالأخلاق حتى إنهم يتجرؤون على الحديث عن « رأسمالية أخلاقية» وهناك أوغاد آخرون يقابلون الأخلاق والسياسة بطريقة لا تحتمل.
إن دراسة تجربة تشي تدل على أنه قائد مسكون بالأخلاق وما تقتضيه باستقامة مثالية تجاه نفسه أولاً وهذا شرط ضروري إذا أردنا أن ينسحب على الآخرين، فبالنسبة لأرنستو يجب أن تتقاطع السياسة دوماً مع المسألة الأخلاقية، فهو يرى السياسة والأخلاق لا تنفصلان وربطهما مع بعض شرط لارتقاء عالم أفضل، والأخلاق – بعكس ما يدعي البعض – لا تفرمل فاعلية السياسة هذا ما يؤكده غيفارا في مدوناته، وفي العام 1962 انتقد أولئك الذين بقوا في منتصف الطريق وضاعوا في متاهات البيروقراطية وفي إغراءات السلطة، ففي زمن التخنث السياسي هذا لا بد لنا من تجسيد أفكار غيفارا بأن السياسة لا يمكن إلا أن تكون مع الأخلاق العالية، وفي خطابه إلى طبقة العمال عام 1960 يشهّر بأولئك الذين يتقنعون بأنهم رجال يسار ويتحدثون إلى الشعب بلغة الثورة فيما هم يتحدثون في الكواليس مع كبار المحتكرين، ولم يكلّ غيفارا من الإلحاح على أن « القيادة الثورية هي مرآة لليقين الثوري».
ويتابع أورتيز: تشي المحارب في الفكر كان لديه حدة إدراك ووعي مسبق فما كتبه في مدوناته حول الاشتراكية تم نشره بعد أربعين عاماً، وكان جلّ تركيزه على الناحية الإنسانية بأن نعتبر أي مشكلة للإنسانية عامة كأنها مشكلتنا الخاصة، لقد اعتبر الإنسان كالرافعة هو المحرك وأساس التغيير الاجتماعي، وكم دعا إلى متابعة تحرير الإنسان والمجتمع في آن معاً.
إن فكر تشي يبقى لنا مدرسة أفكار عظيمة ومشروعه الاشتراكي يسجل إبداعاً ملحمياً لكل شعب.
وكان جان أورتيز قد أصدر مؤخراً كتاباً بعنوان «يحيا تشي» يوجز عنه بالقول: أحد الأسباب التي دفعتني لتأليفه أننا في زمن الرأسمالية التي تهيمن عليها إيديولوجيا شمولية علينا مقارعة الانقلاب الكامل عبر النظام النيوليبرالي والهجوم المضاد لهذا التدمير للمحتوى عبر السياسات الاستعراضية والتسويق السياسي، وللتذكير بأن غيفارا مازال يوحي بالكثير وبأن إرثه في حركة تحرير الإنسانية هو معركة ضارية بين الطبقات المسيطرة وبين الذين يريدون التغيير، إضافة إلى أن الكتاب بمنزلة مذكرات فيه الكثير ما يدفع للتمسك بالمثل العليا اليوم كما الأمس لأن تشي يجسد مثال الثائر المتحرر من النموذج المقولب، وفيه يشير الكاتب أيضاً إلى ضرورة التذكير دوماً بمراحل النضال كمرحلة نضاله مع كاسترو عندما شرعا بالكفاح ضد سلطة باتيستا الفاسدة، يومها كان في الجزيرة الكوبية نصف مليون طفل محروم من المدرسة ومليون مراهق أمي لا يعرف الكتابة و90 بالمئة من سكان الأرياف يعانون من سوء التغذية، وأنه في آذار 1960 عندما أعطى أيزنهاور الضوء الأخضر لعملية زعزعة استقرار كوبا والتي بدأت بتفجير سفينة شحن فرنسية (لاكوبر) المحشوة بالسلاح التي راح ضحيتها 75 قتيلاً و200 جريح، يومها وفي جنازة أولئك الضحايا التقط ألبيرتو كوردا تلك الصورة الشهيرة لغيفارا ولن تنسى الإمبريالية الأميركية هزيمتها الأولى في خليج الخنازير عام 1962.
ويذكر أورتيز أن غيفارا كان شيوعياً قبل كاسترو ثم كيف غادر إلى بوليفيا بعد أربعين ساعة من النقاش مع كاسترو ليشكل هناك قاعدة للمحاربين ثم يكتب لرفيق السلاح: « لدي الشعور بأني أكملت هذا الجزء من واجبي الذي يربطني بالثورة الكوبية على أرضها وأقول لك وللرفاق وداعاً وللشعب الذي هو شعبي».
ويوصّف أورتيز غيفارا بالطبيب بين المدنيين قاسي القلب مع الأشرار والمجرمين رقيق مع عامة الناس والمثقف الشيوعي رفيع المستوى والمفكر الماركسي المغوار في الفكر والعمل ترسخت شيوعيته من ماركس ولينين وأفعاله وكتاباته من خوسيه مارتيه (الفيلسوف وشاعر الكفاح الكوبي) ومن الفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامسكي.
ويتابع أورتيز: كما قال عالم الاجتماع الماركسي ميخائيل لوي «عندما سقط جدار برلين لم يسقط على تشي فوجهه الثائر سيبقى ماثلاً في خيال كل أحرار العالم».
ويختم الكاتب إلى كل الذين كانت أعمارهم نحو العشرين في العام 1968 وغيروا اتجاههم وشاخوا الآن أقول لهم: ليس غيفارا من يهزم بل مازال اليوم يحافظ على وهجه، إنه أسطورة امتزجت فيها صورة الحق والشجاعة مع صورة المقاتل، لن ننسى صيحته على منبر الأمم المتحدة: «الوطن أو الموت» ثم قوله: علمني وطني أن دماء الشهداء هي التي ترسم حدود الوطن « ومما صدر في هذه المناسبة فيلم وثائقي جديد بعنوان « ولادة أسطورة».
وقد كان غيفارا يحب كبار الشعراء ويقرأ لهم فهو شخص رومانسي وشاعر التقى كثيراً نيرودا والشاعر الإسباني الجمهوري ليون فيليب، كما كان يقرأ أشعار سيزار فاييخو لزوجته أليدا ومما قاله في المرأة: علموا أولادكم أن الأنثى هي الرفيقة هي الوطن هي الحياة».
غنى له كثيرون لعل من أشهرهم في وطننا العربي ما غناه الشيخ إمام للشاعر أحمد فؤاد نجم:
غيفارا مات… آخر خبر في الراديوهات والكنائس والجوامع والشوارع والقهاوي والبارات
مات المناضل المثال… يا مئة خسارة عالرجال
يمكن صرخ من الألم من لسعة النار في الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم أو ارتعش أو انتشى
يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع لأجل الجياع
صور كتير ملو الخيال وألف مليون احتمال
لكن أكيد ولا جدال غيفارا مات موتة رجال

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن