ثقافة وفن

من قاطع الأغنية الفصيحة؟ .. هل أصبحت ذائقتنا مغرقة في محليتها؟

| أحمد محمد السّح

تغيرت نبرة الأغنية في المنطقة العربية بعد أن كانت هذه المنطقة وتحديداً منطقة العراق وبلاد الشام هي الأولى في الموسيقا والغناء، فكثيرةٌ شواهد التاريخ التي تثبت أن الأغنية رافقت الحضارة التي تموضعت في هذه المنطقة من العالم قبل غيرها. لكن الأغنية العربية في نشأتها الحديثة، بمعنى الأغنية التي تسجّل وتؤرشف ارتبطت بدخول تقنيات التسجيل إلى مصر حيث كانت النهضة الغنائية، فقد دخلت شركات الأسطوانات مصر في أواخر القرن التاسع عشر، بعد أقل من مرور 20 سنة على اختراع توماس إيديسون للغرامافون عام 1877، حسب بعض المصادر. حيث تعد أسطوانات عبده حامولي ويوسف المنيلاوي أقدم الأسطوانات الموجودة حتى اليوم. وربما تكون ألمظ التي عاشت في عهد الخديوي إسماعيل أقدم المغنيات في تاريخ المنطقة الحديث، حيث غنت الأدوار التي لحنها زوجها عبده حامولي، الذي عمل على مزج الموسيقا التي تعلمها في عاصمة تركيا وقتها مع الموشحات التي كانت قد عششت في الغناء لعقود بعد أن جاءتها من بلاد الأندلس.

لغة النخب المجتمعية
لم تكن فصيحة ولا محلية
لكن الأغنية الفصيحة التي جيء بها لتخدم الأغنية وقتها كان الملحنون وأصحاب الأدوار والموشحات يعملون على تخفيف فصاحتها ظناً منهم أنهم من خلال هذا التخفيف سيكونون قادرين على الوصول إلى المستمعين الذين كان أغلبهم من النخب العالية اقتصادياً ولكنهم كانوا أقل فصاحة لكونهم ممتزجين بزواجات من الأتراك وسواهم من الجنسيات، لذلك فإن لغتهم لم تكن فصيحة ولا محلية إنما فيها فصاحة مائلة إن لم نقل مشوهة، وهو ما مالت إليه الأغاني في تراكيبها تقرباً منهم ومن لهجاتهم.
غنت منيرة المهدية الملقبة بالسلطانة عدداً قليلاً من الأغاني الفصيحة مقارنة بعدد أغانيها المحلية التي ما زالت محفوظة، وربما يعود ذلك إلى أن السلطانة تمثّل نموذج الفنانات غير المثقفات، فهي لم تكن تعرف بالمقامات وفصاحة اللسان إلا أن صوتها الشجي، وجرأتها كامرأة في تلك المرحلة جعلا منها سلطانة الغناء لفترة طويلة كما أن أغانيها لم تخرج فيها بجديد عن سابقيها ففصاحة أغانيها مشابهة لفصاحة الأدوار من أمثلتها (سلوا حمرة الخدين)

أغلب أغاني أم كلثوم الفصيحة
كانت من نظام الشطرين
وبعدها جاءت كوكب الشرق أم كلثوم، لتخرج بالأغنية من قوالب سابقيها، وتجعل منها أكثر ثقافة، وأكثر سمواً ونقاءً، لأن أم كلثوم كانت تقرأ وتكتب وتحفظ القرآن والشعر، وتجيد أحكام التجويد… فكانت جرأتها مع فريق العمل الذي تجمع حولها تكمن في فتح الكتب الشعرية لأخذ قصائد فصيحة بكل شجاعة، وبمواضيع مختلفة.. وأغلب قصائد أم كلثوم كانت من نظام الشطرين ومن الشعر القديم، وربما كان لإبراهيم ناجي وأحمد شوقي من معاصريها حصة الأسد لكن هذا لم يمنعها من التعامل مع جورج جرداق الشاب الجديد وقتها في أغنية (هذه ليلتي) كما أخذت من نزار قباني (أصبح عندي الآن بندقية) كتعارف جديد مع شعر التفعيلة ويقال إنها كانت قد اتفقت معه لغناء قصيدة (اغضب) التي غنتها أصالة نصري لاحقاً، ومع نزار قباني حضرت الأغنية الفصيحة بجدية لقناعة الموسيقار محمد عبد الوهاب أن الشعر الفصيح له حضوره، ووجد رقة القصيدة عنده فلحن للكبيرة نجاة الصغيرة (أيظن، أسالك الرحيلا، ارجع إليّ) فكانت هذه الاختيارات من شعر نزار قباني من أفضل الخيارات لأن عبد الوهاب لم يكن ليجتزئ من القصيدة أو يتلاعب بها، كما حدث بعد رحيل نزار قباني حيث عمد فنانون غنوا الكثير من شعر نزار قباني فتلاعبوا بالقصائد إضافة وحذفاً، وأبرزهم كاظم الساهر الذي أخذ عهداً على نفسه أن يغني معظم شعر الراحل قباني، فأصاب أحياناً وأخطأ مرات كثيرة.

الأغنية الفصيحة كان لها مع السيدة فيروز والرحابنة وقع مختلف
لكن الأغنية الفصيحة كان لها مع السيدة فيروز والرحابنة وقع مختلف، حين اعتمدوا على كتابتهم الجميلة للشعر الفصيح كما المحكي، أو حين أخذوا شعراً عظيماً ليحولوه إلى أغانٍ على الرغم من صعوبة نحته كما في معظم قصائد الشاعر الكبير سعيد عقل التي قالها في الشام، أو حين ذهبوا للتعاون مع شعراء جدد لم يحظوا بشهرة واسعةٍ وقتها كما في قصيدة (لا يدوم اغترابي) للشاعر فايز خضور إضافة إلى العمالقة كبدوي الجبل وجبران خليل جبران والأخطل الصغير وسواهم كثر.
ظهور فنانين قليلي الثقافة
ليتصدروا الساحة الفنية

لكن شيئاً فشيئاً تراجعت الأغنية الفصيحة مرتبطاً ذلك بحالة التجهيل الممنهجة التي اعتمدها رأس المال الجاهل والجبان، إضافة إلى ظهور فنانين قليلي الثقافة ليتصدروا الساحة الفنية، تحيطهم شركات الإنتاج ورؤوس الأموال برعايتها التامة على حين يلجأ فنانون مثقفون بإمكانات بسيطة إلى الذهاب إلى تقنيات أقل انتشاراً دفعاً للتكاليف، فنانون أصبحت أغنياتهم الفصيحة تهمة، والاستماع إليهم تهمة أكبر، لكن الشارع اليوم يعود إلى فتح المجال للجديد، بسبب استخدام تقنيات انتشار مرتبطة بأساليب إنتاج مختلفة عن احتكار رأس المال، وهنا نسمع الغث والسمين، فاليوتيوب متاح للجميع، ومعدل الاستماع الفوري مرتبط بفورات التكنولوجيا، وهو ما له مضار كثيرة، لكن بنظرة متفائلة ربما يستطيع محبو الفن الصادق ومنتجوه أن يبنوا جسراً عبر هذا العالم الافتراضي الشاسع لخلق شيء من التوازن وسط هذه الاختلالات الكبرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن