ثقافة وفن

من حكايات المثل الشعبي .. خلاصة التجربة وحلاوة اللفظ وصدق الأداء

| منير كيال

البحث في المثل الشعبي، هو بحث في حياة الناس، ونشاطاتهم وسلوكهم بل تعاملهم، فضلاً عن أخلاقهم وعاداتهم، وهو خطوة هامة في مجال الدراسات الإنسانية، وقد تصدت الأمثال فيما تصدت، إلى رصد مفارقات الحياة اليومية، وجعلت ديدنها ينصب على ما أعوج من قول أو سلوك أو تعامل ينتظم حياة الناس.
بأسلوب من الزجر تارة والتقدير تارة، وأسلوب التساؤل وتجاهل العارف تارات أخرى، وكان لكثير من هذه الأمثال قصص كان من وراء كل منها الوصول إلى تقرير حقيقة أو تقديم سلوك ولا تخلو هذه القصص ما كان على سبيل التسلية، ونذكر من تلك القصص قولهم:

– الرطل بدّو رطل وأربع أواق
ويضرب هذا المثل للمرء يتمادي بالتعدّي على حقوق الغير ومشاعرهم وأرزاقهم، فقال أسلافنا هذا المثل بحق ذلك المرء المتمادي على سبيل إلجامه وإيقافه عند حدّه، والعودة إلى جادّة الصواب.
– حكم قرقوش
وقرقوش هو بهاء الدين بن عبد الله الأسدي، قدم من بلاد آسيا الصغرى، وعمل بخدمة أسد الدين شيركوه عمّ صلاح الدين الأيوبي، كما عمل بخدمة صلاح الدين الذي ولاّه حاكماً على مصر، لما كان عليه من النّجابة والإخلاص.
وقد حدثت بين قرقوش والأديب المصري ابن مماتي أمور اغتاظ منها ابن مماتي، فألّف ابن مماتي كتاباً أسماه: (الفافوش في حكم القراقوش). وقد ضمن ابن مماتي الكتاب غرائب ونوادر عن أحكام زعم ابن مماتي أنها صدرت عن قرقوش، وحذا حذو ابن مماتي كتاب آخرون، كان قرقوش ضحية لهم، على ما كان عليه من عدل واستقامة، وبالتالي نجد في تراثنا الشعبي الكثير من هذه النوادر والطرائف التي نُسبت إلى قرقوش ظلماً وعدواناً.
ونذكر من هذه الأمثال المثال القائل:
– جارك مثل أخاك… إن ما شاف وجهك شاف قفاك
ولهذا المثل قصة حفظها لنا تراثنا الشعبي وكان الناس يتداولونها ويجعلون هذا المثل محطّ الشاهد، وتتلخّص هذه القصة بعدد من الجيران يسكنون بدار واحدة، وقد تقاسمت النسوة بهذه الدار أعمالاً خيرية أرض الديار (باحة الدار) بحيث يكون لكل واحدة منهن دور أو يوم للقيام بما يلزم لأرض الديار المذكورة.
وصدف أن قدم أحد الجوار إلى الدار بذلك الوقت فطرق باب الزقاق وعمد إلى الاستئذان بالمرور بأرض الديار فما كان من الجارة التي تقوم بأعمال أرض الديار إلا أن رفعت فستانها (روبها) إلى أعلى لتغطّي شعر رأسها وقالت للجار: تفضل جارنا، إن شاء الله أنت مثل أخي.
ولم تشعر هذه الجارة أنها كشفت عن ساقيها لتغطي شعر رأسها، فكان المثل المذكور، دليلاً أو تذكيراً بالقصة المذكورة.
وكان من أمثالنا الشعبية التي تشيد بالموقف الشّهم للرجل في علاقات الإنسان بأخيه الإنسان، وتطلب إلى المرء أن يمتلك الجرأة والصدق والصراحة في تعامله مع الآخر كقولهم:
– خبز الرجال على الرجال دين، وعلى الأنذال صدقة.
وقولهم:
– حكي الوجه «المواجهة» قوّة، وحكي القفا مروّة.
لأن من ينجز ما يعد، ويفي بما يقول، ومن يصنع المعروف مهما امتدّ به الزمان، خليق بأن يشار إليه بالبنان، ويكون محط التقدير والاقتداء، وهذا يذكرنا بقول الشاعر الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جَوازيه / لا يذهب العُرف بين الله والناس
وأخال أن كثيراً من القراء الكرام على معرفة بحكاية المثل القائل:
– دقة بدقّة… ولو زدت لزاد السّقا.
من حيث أن تطاول أو اعتداء المرء على من يتعامل معه مادّياً أو معنوياً، لابُدّ أن يكون بيوم من الأيام في موقع المعتدى عليه قصاصاً لما قام به من تعامل مع الآخر.
فضلاً عما أشرنا إليه، فإن المرء يجد بالذاكرة الشعبية الكثير من هذه الأمثال، لو توقفنا عندها لطال بنا البحث ذلك أن الأمثال كما هو معلوم تعكس بل تصور جوانب الحياة ونحن نعيش هذه الأمثال في جميع جوانب حياتنا، على ما نحن عليه من تطور وتعايش مع معطيات الحياة المعاصرة لما تضم هذه الأمثال من خلاصة التجربة، وحلاوة اللفظ، وبراعة ودقّة وصدق أداء، وشدّة اللصوق بالإنسان في إطار من الأعراف والتقاليد التي تواضع عليها الوجدان الجمعي، الأمر الذي جعل منها مثار حكمة الناس وذكرياتهم.
ولا يكاد الواحد منّا يخوض مع الآخر، نقاشاً أو حواراً، حتى يكون المثل الشعبي الحدّ الفيصل لوضع الأمور في نصابها، ويحظى ذلك المثل بقبول الجميع، حتى لكأنه البلسم إذا وضعناه على الجرح يبرأ ويشفى.
ولكن؟! من أن يتساءل الواحد منّا عن إمكان بقاء هذا الدور للمثل الشعبي بحياتنا، عند الأجيال المقبلة، في إطار ما نحن عليه من انفراط عقد الأسرة التقليدية، حتى إذا ما شبّ أحد أولاد الأسرة يكون له شأن في حياته وتطلّعاته، فكلّ يغنّي على ليلاه، وغداً لناظره قريب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن