قضايا وآراء

الطريق إلى «عصر ما بعد السعودية»

| فارس رياض الجيرودي

مع وصول الصراع على السلطة في الرياض إلى ذروته عبر عملية الاعتقال الجماعية التي نفذها الحاكم الفعلي للملكة اليوم ولي العهد محمد بن سلمان لعشرات الأمراء المتنفذين من أبناء عمومته ولأصحاب الأموال وشركائهم من رجال الأعمال ومسؤولي الدولة، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ آل سعود، يشبّه الكثير من المحللين والمعلقين، ما آل إليه الحال في بلاد نجد والحجاز بـ«فانتازيا» لعبة صراع العروش، نسبة لمسلسل أميركي ملحمي ذائع الصيت، يروي قصص صراعات عائلات ملكية في أوروبا القرون الوسطى على السلطة والنفوذ في زمن لم تكن فيه مصطلحات المواطنة والشعب قد ظهرت بعد.
ورغم أن التشبيه موفق من جهة وصف درجة تخلف النظام الحاكم في السعودية الذي لن تجد له شبيهاً في العالم كله خارج منطقة الخليج العربي، حيث الأرض والناس مملوكون لعائلة ينسبون إليها، وحيث الأمراء من أبناء هذه العائلة يحصلون بشكل قانوني وبمجرد خروجهم من بطون أمهاتهم على مرتبات لا تدخل في ميزانية الدولة، إلا أن هذا التشبيه مضلل في الوقت نفسه، فنحن لا نعيش في القرون الوسطى، والمملكة نفسها أحد منتجات النظام الرأسمالي الغربي المهيمن على العالم منذ قرون، وما ستؤول إليه حال السعودية، لن تحدده الصراعات بين أجنحة العائلة من سديريين وغير سديريين، ولا تحدده شخصية الشاب محمد بن سلمان وحنكته أو تهوره، ولا تحدده حتى انحيازات ألف أمير فاحشي الثراء من أصل 15 ألف أمير سعودي كما تقول «الإندبندنت»، بل تحدده أساسا وقبل كل شيء، المصلحة الاستراتيجية للمركز الرأسمالي كما تراها دوائر صنع القرار في واشنطن، وليس ثمة دليل أبلغ على ذلك من الانهيار السريع في وضع ولي العهد السابق محمد بن نايف الذي كان يمسك في يوم من الأيام بقبضة من حديد وزارة الداخلية السعودية، لكنه وبمجرد تغير التوجهات والسياسات في واشنطن، خسر سلطته وموقعه كولي للعهد وبسهولة لمصلحة ابن سلمان، بل إن ما نفذه ابن سلمان اليوم من خطوة نقل السلطة لجيل الأحفاد والتخلص من كل المنافسين له، هو السيناريو ذاته الذي رسمه لنفسه متعب بن عبدالله بن عبد العزيز في زمن حكم والده مع مستشار الملك حينها صاحب النفوذ خالد التويجري، والذي اقترح تنحية سلمان بن عبد العزيز لكبر سنه عن ولاية العهد، وتنصيب متعب بن عبد الله وليا لولي العهد مقرن بن عبد العزيز، لكن متعب لم يحصل على الدعم الأميركي لطموحه، وها هو اليوم يقبع في المعتقل الأميري مع من ألقى عليهم ابن سلمان القبض.
لقد شكلت السعودية منذ تأسيسها قيمة مضافة مهمة لسياسات بريطانيا، ومن ثم لوريثتها الولايات المتحدة في منطقتنا، ومن ثم أدت دورا في حسم الحرب الباردة وفي تكريس العولمة الامبريالية، وذلك من خلال اتفاقية فيصل كسينجر عام 1974 التي تعهد فيصل فيها ببيع نفط السعودية فقط بالدولار، ما ساهم في تكريس الدولار كعملة عالمية في لحظة تاريخية كانت الولايات المتحدة فيها ونتيجة الاستنزاف في حرب فيتنام، قد خسرت احتياطاتها من الذهب الذي كان يعطي للدولار قيمته، كما أدت مملكة آل سعود دورا مهماً عبر إيديولوجيتها الوهابية ومركزها الديني، في الهزيمة التاريخية للجيش الأحمر في أفغانستان، والتي مهدت لانهيار الاتحاد السوفيتي، وشكلت صندوقا أسود لتمويل عمليات الـ«سي آي إيه» القذرة حول العالم، وللتأثير في الانتخابات في أكثر من بلد، ومنع خصوم الولايات المتحدة من الوصول للسلطة، ولولا هذا الدور الإستراتيجي لكان من الصعب أن نتخيل بقاء نظام ينتمي للقرون الوسطى كنظام آل سعود في عالم اليوم، فمثلا كان التدخل الإسرائيلي لضرب الأنظمة التقدمية في العالم العربي عام 1967 حاسما من جهة إعطاء جرعة حياة جديدة للمملكة وإنقاذها من المد الناصري الذي كاد يكتسحها بعد أن أحدث انشقاقات في العائلة الحاكمة نفسها وفي الجيش والنخبة المتعلمة.
واليوم لدينا من الأدلة ما يؤشر إلى أن السعودية خسرت أهميتها السابقة لدى الولايات المتحدة أو على الأقل عند قسم من دوائر صنع القرار في واشنطن، والتي تبدو بعد وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب للبيت الأبيض منقسمة ومتصارعة أكثر من أي يوم سابق، بين المتمسكين بمشروع العولمة الأميركي القديم، وبين الرئيس الجديد الآتي من خارج الطبقة السياسية التقليدية، والذي لا يمثل نفسه فقط، كما يحاول أن يوحي خصومه في الدولة الأميركية العميقة، بل يمثل قوى صاعدة في النخبة الرأسمالية الحاكمة في أميركا لم تعد ترى في العولمة مشروعا رابحا، بل ترفع شعارات لأميركا أكثر انعزالية، وصرح ترامب نفسه خلال حملته الانتخابية قائلاً: إن السعودية بقرة حلوب عندما يجف ضرعها علينا أن نذبحها.
إن تراجع أهمية السعودية في العين الأميركية مرتبط بتراجع أهمية ما جعل للسعودية قيمتها أصلا، وهو النفط السائل، إذ ثمة اكتشاف استراتيجي تم خلال السنوات القليلة الماضية في أميركا لم يأخذ حقه من التعريف والتناول الإعلامي، هو اكتشاف تقنية النفط والغاز الصخري، وهو ما نقل الولايات المتحدة من أكبر مستورد للنفط في العالم لتكون بلداً شبه مكتفٍ بمصادر الطاقة اليوم، كما أن هناك مؤشرات أخرى إلى قرب أفول عصر النفط السائل التقليدي، منها اكتشاف مصادر جديدة للطاقة عالميا مثل الـ«Iced Oil» الذي اكتشتفه الصين في قاع بحر الصين، ما دفعها للشروع في بناء سلسلة جزر صناعية لضمان حقها في السيادة على مياه البحر وثرواته.
لعل المتابع لما قام به الحاكم الفعلي للسعودية اليوم منذ وصوله لمركز صنع القرار، يظن لوهلة أن الأمير الشاب يمارس ما يشبه الانتحار الذاتي للملكة، فالرجل شن حربا على بلد استعصى تاريخيا على الغزاة هو اليمن، ثم أضرم النار داخل مجلس التعاون الخليجي بحصاره لقطر، وها هو يصطدم مع العائلة المالكة بكل أجنحتها، ومع المؤسسة الوهابية التي شكلت تاريخيا الجناح الموازي لآل السعود في مشروع بناء الدولة السعودية، لكنك إن أردت أن تعرف السر فلا تنظر للأمير نفسه، بل لنصائح المستشار الغربي الذي يقف خلف قرارات الأمير.
لقد استثمر نظام القذافي قبل انهياره وعقب تسوية علاقاته بواشنطن قرابة 150 مليار دولار في محافظ استثمارية في الغرب، وذلك بناء على نصائح مستشارين غربيين، ثم استولت على تلك الأموال كلها الدول الغربية بحجة انهيار مؤسسات الدولة في ليبيا وتحللها، واليوم تتسرب أنباء عن تلقي محمد بن سلمان نصائح من كوشنير، صهر الرئيس ترامب، بالاستيلاء على ثروات شخصيات سعودية بذريعة الفساد واستثمارها لمصلحة الدولة السعودية في الولايات المتحدة إضافة لما تم الإعلان عن استثماره أصلاً من أموال سعودية في الاقتصاد الأميركي خلال صفقة القرن، وهنا بيت القصيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن