ثقافة وفن

التعليم العالي بلا حدود…. ظاهرة تستحق الدراسة

| أ. د. وائل معلا

لعلّ أحد آثار العولمة التي كان من بين أسبابها ثورة المعلومات والاتصالات، أنها دفعت مؤسسات التعليم العالي في العالم نحو مشاركة دولية أكبر. فخلال العقدين الماضيين، أعلنت بعض الدول النامية نيتها التحوّل إلى مجتمع المعرفة، ومن ثم أن توجه مؤسسات التعليم العالي فيها نحو تأهيل كوادر وقوى عاملة مسلّحة بالمعرفة التقانية والمهارات العالية، ليغدو المنتج المعرفي أحد دوافع النمو الاقتصادي فيها.
واستجابة لتلك الحاجة، وضعت مؤسسات التعليم العالي في العديد من دول العالم المتقدّمة علمياً وتقانياً مجموعة من سياسات وإستراتيجيات التدويل، وشرعت بتنفيذها في الدول الطالبة لتلك المعرفة. وقد شملت هذه الإستراتيجيات المشاركة في نشاطات تعاونية عبر الحدود، وإنشاء فروع خارجية دولية للجامعات في البلدان الطالبة.

انطوى مفهوم تدويل التعليم العالي تقليدياً على تنقل الطلاب وحركيتهم. وغالبا ما كان انتقال الطلاب يتمّ من الدول النامية إلى الدول الأكثر تقدما. ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وبالإضافة إلى الحركية الدولية للطلاب، أصبح مفهوم «التعليم العابر للأوطان» ينطوي على حركية من نوع آخر، وأعني به عبور عدد متزايد من المؤسسات والبرامج التعليمية الحدود الوطنية للعديد من البلدان.
يشير مصطلح «التعليم العابر للأوطان» إلى الحالة التي يوجد فيها طلاب يدرسون برنامجاً تعليمياً ما في بلد غير بلد وجود المؤسسة المانحة للمعرفة. وعلى الرغم من أن التعليم العابر للأوطان يمكن أن يتم عن طريق «التعليم عن بعد»، أو «التعليم المقدم من قبل شريك»، إلا أن الحرم الجامعي الخارجي الدولي هو الشكل الأكثر وضوحا لتوفير هذا النوع من التعليم العالي «العابر للأوطان».
لجأ العديد من جامعات العالم خلال العقدين الماضيين إلى افتتاح فروع دولية له في بلدان أخرى لأسباب مختلفة. فبعض هذه الجامعات رأت في ذلك فرصة لتحقيق عائدات مالية إضافية من الأقساط المستحقة على الطلاب المنتسبين إلى فروعها الدولية، خاصة في حال تراجع التمويل الحكومي لها. على حين رأت جامعات أخرى في تلك الافتتاحات فرصة لها لتحقيق وجود وظهور أوضح على الساحة الدولية، ومن ثم تحسين منزلتها العالمية، ولزيادة قدرتها التنافسية في سوق التعليم العالي الدولية.
كما أن العديد من دول العالم يشجّع الجامعات العريقة ذات السمعة العالمية من دول أخرى على تأسيس فروع لها على أراضيها، عن طريق منحها حوافز على شكل دعم مالي أو إعفاءات ضريبية، أو بتخصيصها بأراض… وغيرها من الحوافز، لما لذلك من أهمية في توفير فرص تعليمية إضافية عالية الجودة لأبنائها، وبما يتيح لها نقل المعرفة العلمية إلى أراضيها، وتوطينها، وبناء رأسمالها البشري في اختصاصات لم تكن متوافرة لديها، وتعزيز تواصل الطلاب وأعضاء هيئة التدريس بين الفرع الخارجي والجامعة الأم ما يؤدي لمزيد من التفاعل الجماعي والعمل المشترك وبناء جسور التفاهم بين الشعوب من مختلف الثقافات؛ ناهيك عن خلق فرص جديدة للبحث العلمي.
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن لدى العديد من البلدان النامية نظم تعليم عال تفتقر إلى القدرات والجودة. ويعد «استيراد» برامج التعليم العالي حلا ناجعا وقليل التكلفة من أجل تحسين فرص الحصول على التعليم العالي في هذه البلدان، وزيادة معدلات المشاركة فيها، فضلا عن أنه يتيح لهذه البلدان تنويع نظم التعليم العالي لديها.
صدر مؤخرا عن «مرصد التعليم العالي بلا حدود»Observatory of Borderless Higher Education- وهو منظمة أبحاث مقرها بريطانيا- تقرير بعنوان: «الفروع الخارجية الدولية للجامعات: الاتجاهات والتطورات»، شارك في إعداده فريق بحث «التعليم العالي العابر للأوطان» من جامعتي نيويورك وبنسلفانيا. وقد ذكر التقرير أن عدد فروع الجامعات الدولية في جميع أنحاء العالم بلغ 249 فرعا بحلول نهاية عام 2015، أي بزيادة قدرها 26٪ منذ عام 2010؛ وبينما كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تعدّ الدولة التي تستضيف أكبر عدد من الفروع الخارجية الدولية للجامعات على أراضيها، إلا أن الصين تفوّقت عليها، إذ شهدت الصين في الفترة 2010- 2015 نمواً مركزاً لعدد من فروع الجامعات الدولية. وكذلك الحال في ماليزيا وموريشيوس وكوريا الجنوبية، على حين تباطأ هذا النمو في دولة الإمارات العربية المتحدة.
ومن حيث القيمة المطلقة، كان نمو فروع الجامعات الدولية في جميع أنحاء العالم ثابتا، حيث تم تأسيس 66 فرعا جديدا بين عامي 2011 و2015 مقابل 67 في الفترة 2006-2010. وبحلول نهاية عام 2015، بلغ عدد الطلاب المسجلين في الفروع الخارجية الدولية للجامعات في 76 بلداً نحو مئة وثمانين ألف طالب وطالبة.
وعلى الرغم من أن هناك تساؤلات متزايدة حول مدى استدامة جهود العولمة هذه، إلا أن هذه الاتجاهات تشير إلى أن العديد من البلدان في العالم لا يزال ينظر إلى التعليم العالي العابر للحدود كوسيلة مهمة لبناء القدرات داخل هذه البلاد.
يعرِّف مرصدُ التعليم العالي بلا حدود «الفرع الخارجي الدولي» لجامعة ما على أنه «مرفق تعليمي تمتلكه، على الأقل جزئيا، مؤسسة تعليمية أجنبية، ويعمل تحت اسم هذه المؤسسة الأجنبية، ويتلقى الطلاب فيه وجها لوجه تعليماً يحصلون في نهايته على مؤهلٍ علمي يحمل اسم تلك المؤسسة الأجنبية».
إن أكثر خمس دول استضافة لفروع الجامعات الخارجية الدولية هي الصين التي تستضيف 32 فرعاً لجامعات دولية، تليها الإمارات العربية المتحدة وتستضيف 31 فرعاً، ثم سنغافورة (12فرعاً)، وماليزيا (12 فرعاً، منها سبعة فروع لجامعات بريطانية وأربعة لجامعات أسترالية مرموقة)، وقطر (11 فرعا). وتستضيف هذه البلدان فيما بينها 98 فرعا، أي 39 في المئة من المجموع العالمي. ومن الواضح أن هذه الفروع لعبت دوراً أساسياً في نقل المعرفة وتوفير تأهيل علمي عالي الجودة، ناهيك عن توفير فرص عمل كبيرة.
أما بالنسبة لدول منشأ هذه الفروع، فهي تتوزع على 33 بلدا مختلفا، أي بزيادة قدرها 18٪ منذ عام 2011. وأهم خمس دول منشأ هي الولايات المتحدة التي أنشأت جامعاتها 78 فرعا خارجياً دولياً، تليها المملكة المتحدة (39 فرعاً)، وفرنسا (28فرعاً)؛ بينما أحدثت روسيا 21 فرعاً خارجياً لجامعاتها، وأستراليا 15 فرعاً. ولهذه الدول الخمس مجتمعة فيما بينها 181 فرعاً دوليا، أي 73٪ من مجموع الفروع الخارجية الدولية المنشأة. والجدير بالذكر أن افتتاح فروع خارجية لم يعد حكراً على الجامعات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، بل تعداها إلى دول باتت مصدرة للمعرفة مثل جمهورية إيران الإسلامية، إذ قامت جامعة آزاد الإيرانية بافتتاح فروع خارجية لها في كل من لبنان والإمارات العربية المتحدة، وهي الآن بصدد افتتاح فرع لها في كندا.
لا تزال بعض البلدان النامية تعدّ موطنا لاستضافة فروع الجامعات الدولية، ولكن معدل نمو هذه الفروع متفاوت جدا، ولا يزال نشاطها ضئيلاً في كل من أفريقيا وأمريكا الجنوبية: ففي الفترة 2011-2015، تم تطوير أربعة فروع دولية جديدة في أفريقيا خارج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفرع واحد فقط في أميركا الجنوبية.
ومن المتوقع أن تدخل دول أخرى سباق إنشاء الجيل القادم من فروع الجامعات الدولية أو استضافتها؛ فهناك ثمانية فروع يعتقد أنها قيد التطوير حاليا وتعود لمؤسسات تعليم عال في الصين، ومصر وإيران، ولبنان، وروسيا. وجميع هذه الفروع ستستضاف من البلدان النامية أو البلدان المتوسطة الدخل باستثناء جامعة آزاد الإسلامية الإيرانية التي تخطط لفتح فرع لها في كندا كما ذكرنا، وجامعة أميتي الهندية التي حصلت مؤخرا على حرم جامعي خارجي في لونغ آيلاند بنيويورك، بعد أن افتتحت فرعاً لها في الإمارات وآخر في موريشيوسس.
لم تكن جميع مشاريع افتتاح الفروع الخارجية الدولية للجامعات مشاريع ناجحة، فمنذ عام 2011، تم إغلاق 14 فرعا خارجيا دوليا، بما في ذلك اثنان في كل من سنغافورة والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة. وقد مضى على تأسيس خمسة منها على الأقل أكثر من عشر سنوات، ما يشير إلى أن تغيراً في ظروف العمل قد أثر في تشغيل واستدامة هذه الفروع. وأسباب إغلاق هذه الفروع متنوعة، كانخفاض في معدلات التحاق الطلاب، وخسائر مالية ناجمة عن سوء في التخطيط وكيفية إدارة المخاطر. وهناك سبب شائع آخر وهو الصراع مع الحكومة والهيئات التنظيمية في البلد المضيف، فالدعم المقدم من الدولة المضيفة يمكن أن يكون عاملا حاسما في نجاح الفرع الخارجي الدولي للجامعة أو فشله.
أنشئت بعض فروع الجامعات الخارجية نتيجة دعوة مباشرة تلقتها من الحكومة المضيفة وعرضها تمويل كامل نفقات التأسيس وتحمل تكاليف التشغيل. ومن الأمثلة على ذلك قيام حكومة أبوظبي بتمويل إنشاء فرعي جامعة نيويورك الأمريكية وجامعة السوربون الفرنسية اللتين افتتحتا فرعين لهما في أبو ظبي، وكذلك تحمّل نفقات تشغيلهما. وعلى الرغم من أن هاتين المؤسستين وعِدتا بالحرية الأكاديمية والتشغيلية لفرعيهما، فقد أثار ذلك بعض التساؤلات حول ما إذا كان من المناسب أخلاقيا لمؤسسات التعليم العالي قبول مثل هذا التمويل لفروعها، الأمر الذي قد يؤدي إلى تدخلات في إدارة شؤون هذه الفروع.
وفي سورية لم نشهد حتى الآن افتتاح أي فرع لجامعة أجنبية على الرغم من أن القانون يسمح بذلك، كما أنه لا يوجد لأي جامعة سورية فرع خارج أراضي الجمهورية العربية السورية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جامعة «تربية مدرس» الإيرانية كانت تخطط لافتتاح فرع لها في اللاذقية بالشراكة مع جامعة تشرين وتحت اسم «جامعة الفارابي للدراسات العليا»، إلا أن الأزمة التي عصفت بالبلاد حالت دون استكمال هذا المشروع المهم. وعلى الرغم من أن جامعة دمشق افتتحت خلال السنوات التي سبقت الأزمة العديد من البرامج التعليمية المشتركة على مستوى الماجستير بالشراكة مع جامعات أجنبية عريقة وفي اختصاصات مطلوبة جدا في سوق العمل، إلا أن أياً من تلك الجامعات الشريكة لم يخطط لتوسيع هذا التعاون ليشمل افتتاح فرع خارجي دولي لها في سورية.
بناء على ما سبق، لا بد من دراسة هذه التجربة العالمية دراسة عميقة ومتأنية، وتقييمها تقييما دقيقا لتحديد ما إذا كان من الحكمة الاستفادة منها في سورية، خاصة في مرحلة ما بعد الأزمة حيث سيواجه قطاع التعليم العالي تحديات كبيرة ليس فقط على صعيد إصلاح ما تضرر أو دمر من البنى التحتية والمنشآت التعليمية، وإنما أيضا على صعيد بناء رأس المال البشري المؤهل للمشاركة الفاعلة في عملية البناء والتنمية، وتعويض النقص الناتج عن هجرة الكفاءات والأدمغة.
ولعل أهم فائدة لظاهرة افتتاح فروع خارجية دولية لجامعات عريقة في سورية هو تيسير نقل المعرفة، والاستفادة من الخبرات العلمية العالمية المرموقة، وإتاحة الفرصة أمام أبنائنا للتحصيل العلمي الرفيع وباختصاصات فريدة دونما حاجة لأن يتغرّبوا، وخلق بيئة للبحث العلمي تنعكس نتائجها على عملية التطوير بكل أبعادها.
لكن كما سبق أن رأينا فإن استقطاب الجامعات العالمية المرموقة وتشجيعها على افتتاح فروع لها في سورية يحتمان تقديم الحوافز لها أسوة بما قامت به العديد من دول العالم، الأمر الذي يتطلب على الأخص توفير البيئة التشريعية المناسبة لعمل هذه الجامعات وضمان استدامة فروعها، وهو أمر يصب في النهاية في مصلحتنا الوطنية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن