قضايا وآراء

تعقيدات المرحلة الانتقالية

| أنس وهيب الكردي

ليس سهلاً أبداً أن يصل أي نزاع إلى خواتيمه بل إلى التسوية السلمية غالباً، لأن القضايا الأكثر تفجراً، تظل معلقة إلى النهاية، وقد تؤدي محاولة حسمها إلى العودة للسلاح، لمن يقدر عليه، والأزمة السورية بكل الأحوال، ليست هنا استثناء، فهي لا تزال تنتظر الانتقال من مكافحة داعش إلى التسوية السياسية، التي تتعدد محطات إعادة إطلاقها.
مرت أوروبا قبل قرنين من الزمن بالتجربتين، فالمجتمعون في العاصمة النمساوية فيينا اختبروا احتمال العودة إلى القتال بعد بلوغ المرحلة الختامية للحروب النابليونية عندما كادت الصراعات على مستقبل بولونيا وولاية الساكس الألمانية، أن تغرق المتحالفين المنتصرين على نابليون، في نزاع جديد فيما بينهم، كما أن تحالف هؤلاء المنتصرين شارف أكثر من مرة، على التفكك، لدى محاولاتهم الانتقال من ميادين الحرب إلى كواليس الدبلوماسية لبحث آفاق السلام مع إمبراطور الفرنسيين المهزوم.
ولا تشذ الأزمات المترابطة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط عن ذلك، وبالأخص الأزمة السورية المتوالية الفصول منذ سبع سنوات ونيف.
يخفي الاتفاق الذي توصل إليه الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب في فيتنام، والذي قصدا منه تنظيم الانتقال بسورية من مرحلة داعش إلى التسوية السياسية للأزمة، صعوبة وتعقيد هذا الانتقال، الذي تمت مقاربته بالكلمات المنمقة وحدها، من دون توضيح آليات محددة، فلا شيء يضمن أن تكون المظلة الروسية الأميركية كافية فعلاً لإدارة هكذا انتقال، هذا إذا كان الطرفان جديين وراغبين به من الأساس، في ظل ممانعة إقليمية ومحلية لا شك حولها.
على المرء تفحص قوة ومتانة المظلة الروسية الأميركية، التي أنشأها اتفاق بوتين ترامب بفيتنام، الذي استهدف تفكيك البنى الخاصة بمكافحة تنظيم داعش في سورية، وأبرزها الوجود الأجنبي والسلاح المرتبط بتحقيق أهداف الحملة ضد داعش.
ينص الاتفاق على تجريد مناطق المسلحين من السلاح بالتدريج وهذه «خطوة أميركية»، مقابل العفو عنهم ودمجهم بالمنظومة السورية وهذه «خطوة روسية»، ومقابل ترك حرية العمل لموسكو في مسار أستانا كتنازل أميركي، أصرت واشنطن على جعل جنيف بمثابة المسرح النهائي للتصديق على أي اتفاق تسوية للأزمة السورية.
كذلك، عمّد بوتين وترامب اتفاق عمان التكميلي بشأن «منطقة خفض التصعيد» في جنوب غربي سورية، الذي يستهدف إتاحة المجال أمام القضاء على ما تبقى من تنظيمي داعش وجبهة النصرة «المنحلة» في المنطقة، كما مددا العمل باتفاق عدم التصادم في شرق البلاد.
وتفاهم الأميركيون والروس على بداية خروج قوات التحالف الدولي من شرق سورية، مقابل انسحابات أخرى متزامنة، لم تحدد ماهيتها، ولم يخفِ الروس عزمهم إجراء سحب لقسم من قواتهم المنتشرة في سورية.
هذه التفاهمات التي أرستها قمة فيتنام، كانت بمثابة المحرك لماراثون دبلوماسي أطلقه الرئيس الروسي أعاد الزخم إلى التسوية السياسية للأزمة السورية بعد سبات طويل، قفزت خلاله القضايا العسكرية إلى الواجهة، سواء أكانت متعلقة بالمرحلة الختامية من الحرب على داعش، أو جولات أستانا التي كرست مسار خفض التصعيد. إلا أن الدبلوماسية التي مهدت للاتفاق في فيتنام، أخفت عدم تفاهم الجانبين الروسي والأميركي على الكثير من النقاط المعقدة العميقة للأزمة السورية، والتي زادتها السنوات تعقيداً، فالاتفاق يهيئ الأرضية لإسدال الستار على مكافحة داعش، لكن التناقض واقع ما بين الأهداف الأميركية من الاتفاق، وتلك الروسية؛ إذ بينما ذهب الأميركيون إلى فيتنام وفي ذهنهم دق إسفين بين الروس والإيرانيين، وتوفير هدوء في مناطق شرقي نهر الفرات يمّكن حلفاءهم في تجمع «قوات سورية الديمقراطية – قسد» من هضم الأراضي التي سلختها من داعش وبناء استقرار أمني وسياسي، وقعت موسكو الاتفاق عله يمنع الانهيار الكامل للعلاقات الأميركية الروسية على الأقل خلال الأشهر المقبلة، التي ستشهد إطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية في روسيا.
ومن نافل القول إن الكرملين لن يتخلى عن إيران، ليس لأن علاقة موسكو وطهران هي ضمانة استمرار الاستقرار الراهن في سورية ومفتاح الوجود الروسي بالبلاد فقط، بل لأن الروس لا يفضلون الجلوس قبالة الأميركيين وحلفائهم في المنطقة لوحدهم بمعزل عن الإيرانيين، لما له من تأثير سلبي على قوة المفاوض الروسي، أيضاً، تهدد التحقيقات في واشنطن بدور روسي مزعوم في انتخابات الرئاسة الأميركية العام 2016 الماضي، أي جهود مشتركة روسية أميركية في سورية وغيرها، إن لم تؤد إلى نسفها.
وإذا كانت التسوية النهائية للأزمة السورية بعيدة نسبياً، فلن تكون روسيا أو الولايات المتحدة أو غيرهما، مستعدين للتنازل عن أوراقهم، بل سيجاهدان للاحتفاظ بما لديهم وزيادتها حتى لحظة الجلوس على الطاولة والتوصل إلى اتفاق، الأمر الذي يعني أننا أمام مزيد من اختبارات القوة والمناورات.
لذلك، لن يكون بمقدور اتفاق فيتنام الصمود حتى التوصل إلى تسوية قضايا الحل النهائي للأزمة السورية، فإما أن يضفي المزيد من التعقيد على تلك القضايا، أو يمثل تمهيداً لاتفاقات أخرى لا يزال العمل جارياً عليها وراء الكواليس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن