ثقافة وفن

لغة القصيدة، وسرُّ الحرف وجمال الصورة

| أحمد محمد السّح

يسعى العلماء دائماً إلى الحكم على الشيء، أما في الشعر فأنت تتعامل مع الشيء ذاته بكل مستوياته وتنوعاته، من حيث اللغة، والإيقاع، والصورة الشعرية وسواها، فكل ما يفعله القارئ أو الناقد المختص حين قراءة النص هو مواجهته بكليّته، وتأمله والانفعال معه للوصول إلى استيعابه أو رفضه. وتبدو الجوانب التي يمكن التعامل مع الشعر من خلالها متشعبةً ومختلفةً باختلاف الاهتمامات الشعرية، وإذا ما أحاط متلقي القصيدة بأحد جوانبها من دون الآخر تنشأ المشكلة الأعقد في النقد، لأنك بهذه الحالة تدخل عالم الشعر من نافذة واحدة لا من بوابة الشعر الواسعة، لأن جوانب الشعر المتنوعة واحدة لا تتجزأ.

مما لا شكّ فيه أن الطحين الأساس لعجينة الشعر، هو المفردة، والشاعر يجمع طحينه من لغة الحياة اليومية، ومن ثقافته ومن معرفته، وفي النهاية يشكلها ضمن رؤيته لها، فالمفردة التي تستعملها لغة الحياة اليومية، تتحول وتتشكل في روح الشاعر إلى مفردة أخرى قد تنتقل إلى معنى مغاير لما هي عليه، بشكل جذري، أو قد تحافظ على معناها وقد تحتفظ بصفة من صفاتها دون سواها يظهرها الشاعر ويغفل غيرها حسب حاجته لها في النص وحسب حاجة النص إليها. وهنا يمكن إيضاح ذلك في عنوان مجموعة لا في قصيدة مع ما للعنوان من أهمية وبحث طويل للدارسين. تحمل إحدى المجموعات الشعرية للشاعر رياض الصالح الحسين اسم «بسيطٌ كالماء واضحٌ كطلقةِ مسدس» في هذه الجملة الشعرية التي جعل منها رياض الصالح الحسين عنواناً لمجموعته الأخيرة في حياته يختار من صفات الماء البساطة ليربط المشبه بالمشبه به، ومن طلقة المسدس يختار لها صفة الوضوح، فالمفردة هي ذاتها، في كلامنا العادي لكن ربطها هو الذي أعطاها المفارقة لتشكيل اللغة الخاصة بالنص دون سواه، فعندما يصل النص إلى المتلقي لغةً، ويتخيله صورةً، سيعيد إنتاج كل صورة شعرية بطريقةٍ مختلفة، تختلف عند الشاعر نفسه بين نص وآخر وتختلف من شاعر إلى آخر، فالجاحظ قال يوماً أو نُسب إليه (المعاني مطروحةٌ على الطريق) ما يدل على شيوع المعاني والألفاظ في كل مكان، والشاعر هو روح المجتمع ورئته ويردد لغة الشارع نفسها ولكن في لحظة الخلق الشعري لن يكون على الإطلاق في لغته مشابهاً للغة الشارع، فمهما قاربها أو شابهها، فإنه لن يصل معها إلى المماثلة والمطابقة.
يقول سليم بركات في كتابه الشعري «ترجمة البازلت– عام 2009» وهو الشاعر الذي سكنه التغريب وتقعير اللغة:
(أقسم بالقسمِ الحانثِ أن يبقى الليلُ بلا تعديلَ على فطرتهِ لا يستأذنُ
أحداً، كالشوقِ لا يستأذنُ أحداً، كالغبار لايستأذنُ. وهم لا يستأذنون،
أولاء، الذين يُضمرُ الحديدُ لهم ما يضمرهُ الخزف. لا يستأذنون.
لا يُستأذنون: لينٌ يوحّدُ شؤونهم بمراهم من غدد أذيال البط)
لدى سليم بركات سعيٌ دائم لخلق لغته الخاصة، من لغة الناس، ويذهب بالشعر إلى أبعاد صعوبته، وهو الذاهب بهِ فناً خاصاً يزداد خصوصيةً، لكون الشعر يتقاطع مع البشر أنه لغةٌ وكلام في عجينته الأولى، يستخدمون المادة ذاتها، وهذا ربما يجعل الناس مستعدةً لإبداء رأيها في الشعر، لأنه كلامٌ مثلما هم يتكلّمون، وهذا بدوره دفع الكثيرين إلى كتابة مشاعرهم المتضاربة حبراً على ورق من دون أن يتقنوا ولو بالحدس الفارق بين اللغة\ الشعر واللغة\ الكلام، وإن اقتربت لغة الشاعر من لغة الشارع لكن توظيف اللفظة وجعلها شعريةً لا يتقنها كثيرون، لا بل هم نادرون. فعادل محمود يكتب في قصيدته «قلعة» ضمن مجموعته «الليل أفضل أنواع الإنسان– 2015»:
( كأنما الصخور التي ألّفت، منذ قرونٍ،
«الأعمال الكاملة» للجدرانِ العتيقة،
في قلعةٍ حضنت بيوض التاريخ والنسيان…
كأنما القلعةُ بدأت تنهار)
مفردات (الصخور، الجدران، بيوض، وقلعة…) اكتسبت معناها المختلف حين كوّنت «الأعمال الكاملة» للتاريخ والنسيان، اكتسبت هذه المفردات أبعاداً مختلفة مرتبطة بالإنسان لا مجرد جماداتٍ نستطيع إلباسها الفهم بالسياق، الذي تعصف به الجملة الشعرية، واللحظة الشعرية، فإدخال اصطلاح «الأعمال الكاملة»، ومتضادتي «التاريخ والنسيان» ألزم مخيلة القارئ باتجاه معنى يصعب ضبطه وتقييده، ما أعطى صورة شعرية حرةً ومنفلتة تتسق مع الشعر وانطلاقته غير المحدودة.
تتراكب العلاقةُ بين اللغة والصورة الشعرية لتتوضع ضمن علاقات متنوعة، تشكل بجوهرها القصيدة السرّ، أو سرّ القصيدة، فالألفاظ في القصيدة لا تشير إلى الشيء في ذاته، بل تربطه بأشياء أخرى من خلال تقاطعات اسمه ومعناه، وهي اللعبة الخطرة التي إن تملكها الشاعر استطاع خلق قصيدة جديدة وغريبة ومرغوب فيها.. والشاعر عبد الكريم الناعم تبلورت لديه هذه الجدة في نصوص كثيرة منها «نقرة» من مجموعته «من مقام النوى– عام 1988»:
(إنّ روحي من خزفْ
ويدي تستقرئ الحبر على قرطاس روحي
فاحذري القلب الذي تصنعه الأيام من
طين الشغف
إنه إنْ يهطل الحزن عليه
تصبح الوردةُ كوباً لجروحي).
إن محاولة في قراءة الكثير من المجموعات الشعرية لشعراء حقيقيين أعطوا ويعطون، ويتوالدون باستمرار ستكشف أنهم استخدموا ألفاظاً يومية كثيرة مستخدمة بطريقة شعرية، فلم يمنعها كونها مفردة يومية من أن تكون لفظة شعرية في سياق العلاقات التي تفرضها طبيعة الصورة الشعرية والفكرة الذكية التي تلبسها القصيدة، وهذه الرشاقة تميزت بها شاعرات استخدمن حنان لغتهن في الحياة كما فعلت دعد حداد في مجموعتها «تصحيح خطأ الموت– عام 1981» في قصيدتها «اقتلني واربح دولاراً»:
(الحب جميلٌ هذا اليوم،
وطيور العالم واجفةٌ تبحث عن دفء اليوم،
وأنا وحدي،
لا أملكُ شيئاً،
لا أملكُ إلا الحرية…
إلا قلبي.. قلبي العارم حباً،
اقتلني… واربح دولاراً)
يستخدم الشاعر لغةً فلسفيةً أو لغة من حياته اليومية أو من أي مخزون يضيفه إلى قاموسه وجعلها تتوالد وتنمو وتنصهر وتتغير في مخازن روحه وفكره، وتبقى مسألة اللغة في الشعر مسألة معقدة جداً تختلف طريقة تعامل الشاعر معها، ويبدو البحث فيها كمن يبحث عن تحوّل ذرات الهيدروجين والأكسجين إلى جزيئات ماء، بينما هناك من يريد أن يروي عطشه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن