ثقافة وفن

قصور دمشق شاهدة على حضارات سادت ثم بادت

| شمس الدين العجلاني

يقولون: الدنيا دولاب يوم فوق ويوم تحت، ولعل هذا القول ينطبق على الحضارات المتعاقبة في حياة الأمم والشعوب فكم من الحضارات سادت ثم بادت تاركة أثراً في الحضارة التي تليها.
وأرض سورية شهدت أقدم وأهم الحضارات على وجه المعمورة، ومر على أرضها حضارات متنوعة ومختلفة… من حضارة الكنعانيين، والأموريين، والفينيقيين، والآراميين والآشوريين… أمم وقبائل وشعوب مروا من هنا من بلاد الشمس… وفي دمشق شُيّدت القصور العظيمة للملوك والأمراء والسلاطين والحكام… على مر الأيام والسنين الطويلة، واندثرت أغلبية تلك القصور، وما بقي منها حتى الآن يروي قصصاً وحكايا..
قراءة تاريخ الأمم وآثارهم بشكل عام، قراءة ممتعة ومفيدة.. ونحاول ها هنا أن نمر مرور الكرام على عدد من القصور التي كانت بدمشق في حقبات مختلفة وبعيدة وسادت ثم بادت..

قصر الآراميين
الآراميون: «هم من العرب الشماليين يتكلمون اللغة العربية الشمالية التي تسمى اليوم السريانية، وهي لهجة قديمة عاشت في وقت واحد مع لهجتين واحدة في العراق وهي الكلدانية وأخرى في الساحل وهي الفينيقية. والآراميون هم سكان دمشق الأصليون الذين استقبلوا الفتح الإسلامي بالفرح والدعم تخلصاً من سلطة الروم. ومازالت أسماء القرى المجاورة لدمشق وأسماء الأنهار آرامية محرفة حتى اليوم-‏ عفيف بهنسي».
في ذاك الزمن الغابر امتدت ممالك الآراميين في معظم أنحاء البلاد السورية. وتتحدث مصادر التاريخ أنه كان هنالك بدمشق، قصر عظيم لملك الآراميين، ولكن هذا القصر هدم بفعل الإنسان، إذ هدمه ملك الآشوريين تغلات فلازار الثالث خلال هجومه على دمشق عام 734 قبل الميلاد ويعتقد حسب أغلب المصادر، بأنه كان في الشارع المستقيم «سوق مدحت باشا الآن» عند حي مئذنة الشحم في مكان يدعى تلة السماكة.
والمحور الأساسي لمدينة دمشق في الزمن الآرامي وحتى الزمن الروماني يمتد من القصر في تل السماكة وحتى المعبد في موقع الجامع الأموي.
وفي وصف القصر يذكر بهنسي عن القصر الآرامي: «من المعتقد أيضاً أن القصر الملكي الآرامي يقع في تل السماكة الذي يرتفع عما حوله بمقدار خمسة عشر متراً. ولقد تحدثت الروايات التاريخية عن هذا القصر حيث اعتصم فيه ملك دمشق ضد غزوات الآشوريين وكان منيعاً ترف الزخرفة ولقد أوردت الوثائق التاريخية وصفاً لبعض التحف الفنية التي كان يحويها مما غنمه ملك الآشوريين بعد حصاره دمشق عام 805 ق.م وما غنمه فرعون مصر تحوتمس الثالث الذي غزا دمشق».
وفي حقيقة الأمر فقد تضاربت آراء الباحثين بخصوص موضع القصر الآرامي فمنهم من ذكر مكانه في ثنايا قمة أسفل التلة الواقعة في حي باب توما شرقي المدينة وشمال الشارع المستقيم. وذكر آخرون وجود القصر الآرامي ضمن تلة السماكة الواقعة جنوبي الشارع المستقيم.
في حين يرى المستشرق الفرنسي جان سوفاجيه، أن المنطقة التي تسمى البريص أي الحصن، تحوي آثار قصر أنطوخيوس الرابع الذي حكم دمشق في نهاية القرن الثاني ق. م، وأن قصر أنطوخيوس شُيد على أنقاض القصر الآرامي. ‏

قصر هرقل
هرقل أسطورة نتناولها حتى أيامنا هذه في أحاديثنا عندما نريد وصف قوة رجل ما فنقول إنه قوي مثل هرقل، ولكن هل كان هرقل يوماً ما بدمشق!؟
يقولون: إن هرقل من عائلة أرمنية الأصل، ومن جذور ترقى لعائلة الأرسكيد التي حكمت أرمينيا يوماً ما.
كان هرقل من أعظم أباطرة الروم وأكثرهم شهرة في المصادر العربية؛ لأن اسمه اقترن بالفتوحات الإسلامية وتحرير بلاد الشام ومصر من الحكم الروماني وللرسالة الشهيرة التي أرسلها الرسول محمد «ص» إليه. مات هرقل بعد أن حكم اثنتين وثلاثين سنة حافلة بالأحداث المصيرية.
كان هرقل بدمشق عام 627م، بعد أن استعادها من يد الفرس. وحين قدم العرب المسلمون إلى دمشق، وهزموا الروم في سلسلة من المعارك، ثم أنزلوا بهم هزيمة ساحقة في معركة اليرموك في عام 15هـ/636م التي ترتب عليها تحرير بلاد الشام. وتقول الروايات العربية: إن هرقل كان يتابع سير تلك المعارك من مدينة حمص وعندما بلغه خبر وقعة اليرموك فر من أنطاكية متوجهاً إلى القسطنطينية وعندما وصل في انسحابه إلى جبال طوروس التي تفصل بين الأناضول وبلاد الشام، وقف واستدار جهة الجنوب وقال قولته الشهيرة وهو يودع سورية: «سلام لا لقاء بعده» ورويت هذه الجملة بعدة أشكال فقيل: إنه قال: «عليك يا سورية السلام ونعم البلد هذا أو إنه قال: «وداعاً سورية… إلى الأبد».
وأثناء وجود هرقل بدمشق أشاد بها قصراً عظيماً، تذكر المصادر التاريخية أنه كان قائماً في محلة النيرب القديمة التي كانت تقع شرقي الربوة بين بردى وفرعه تورا. كما تذكر المصادر أن هذا القصر ظل مكانه معروفاً حتى عهد متأخر، ثم اندثر ولم يبقَ منه أثر.

هل كان لتيمورلنك قصر في دمشق؟
عندما قدم تيمورلنك إلى بلاد الشام ليدمرها ويقتل البشر والحجر فيها، كانت مسيرته لبلاد الشام وحصاره لدمشق بين 22 كانون الأول 1400م و20 آذار 1401م، أي نحو 90 يوماً، كما روي أنه أقام بدمشق 83 يوماً، وهذه المدة لم تتح له أن يبني قصراً بدمشق، وخاصة أنه عرف عنه من خلال احتلاله للمدن والدول أنه يهدم ولا يبني.. ولكن أين كان ينزل تيمورلنك بدمشق!؟
تنقل تيمورلنك بين عدة أماكن خلال إقامته بدمشق، فقد اتخذ بعد معركة الكسوة من قبة يلبغا «في ساحه المرجة» منزلاً له، وبعد ثلاثة أيام أي يوم 9 كانون الثاني 1401 م نزل في قصر الأبلق مدة ليلتين، ثم انتقل إلى سوق صاروجا، حارة قولي إلى منزل أحد قادة المماليك ويدعى «بتخص السودوني» ويعتبر «السودوني» من عظماء أمراء الشام وكان منزله ملاصقاً للمسجد ولم تزل بقاياه موجودة وهذا المكان كان كثيف الأشجار وقليل البناء وخارج سور دمشق، لذا اختاره تيمور مكاناً لإقامته، وهذا المكان هو الآن مكان مسجد بلبان. وكانت الإقامة فيه قصيرة جداً، حيث انتقل إلى تربة منجك في باب الجابية وبها بقي أطول مدة، وأثناء إقامته في تربة منجك كان يتردد بين الفينة والأخرى إلى قصر الأبلق الذي أمر بإحراقه حين غادر دمشق.

قصر الخضراء
بعد أن جاء الإسلام وغدت دمشق عاصمة الأمويين ظهرت قصور الأمويين بكثرة، ولعل أهمها قصر معاوية «الخضراء» وقد سمي كذلك لوجود قبة خضراء في المحلة التي كان فيها القصر الذي سمي أيضاً مقر الإمارة ودار الملك، قصر معاوية كان في الأصل بناء قديماً جدده معاوية، ويذكر ابن عساكر «أن الخضراء التي فيها معاوية من بناء أهل الجاهلية، من البناء القديم».
كان قصر «الخضراء» أول قصر يشاد في دمشق بعد الإسلام، أصابه الخراب في العهد العباسي ثم احترق في أواخر عهد الفاطميين في الحريق الذي حدث عام 1068م، واندثر «الخضراء» نهائياً.
وحول بنائه ثمة رواية تاريخية وردت عند عدد كبير من أصحاب الشأن، تذكر أن معاوية بنى قصره في بادئ الأمر بالطوب والخشب، فلما فرغ منه، قدم عليه رسول ملك الروم، فنظر إليه، فقال معاوية: كيف ترى هذا البنيان، فقال: (أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللنار. قال: فنقضه معاوية وبناه من الحجارة، وأصبح قصر الحكم الأموي الأول).
يقع قصر الخضراء في المكان المحاذي لجدار الجامع الأموي من الجهة الجنوبية، وكان يتصل بحرم الجامع من خلال باب يطلق عليه اسم باب الخضراء، وهو إحدى الفتحات الثلاث لمعبد جوبيتر، وقيل أيضاً إنه باب السر لأن الخلفاء يدخلون منه إلى الجامع من دون أن يراهم أحد.
المعلومات عن قصر الخضراء قليلة جداً، توزعت في كتب الأولين، وعرف أنه صرف على بناء القصر وزخرفته وأثاثه الأموال الطائلة، وأن له قبة عظيمة لونها أخضر، وأن أرضه فرشت بالمرمر، ويصف ابن كثير القصر فيقول: (كان غاية الأحكام والإتقان وطيب الغناء ونزهة المجلس، وحسن النظر)، وتروي أخبار الأصفهاني أنه كان به حدائق ويطل على السهل الجنوبي حتى جبل الشيخ، وكان يحتوي على كرسي الخلافة، وهو مربع الجوانب تستره الوسائد المطرزة الفخمة، وكانت تسكنه ميسون زوج معاوية.
بقي قصر الخضراء قائماً يستعمله الخلفاء الأمويون من بعد وفاة معاوية، فقد اشترى عبد الملك بن مروان هذا القصر من خالد بن يزيد بن معاوية، وجعله دار الإمارة، وكان الثمن (أربعين ألف دينار وأربع ضياع) ويقول ابن عساكر مؤرخ دمشق، أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس اشترى القصر من حفيد معاوية خالد بن يزيد بأربعين ألف دينار، وأربع ضياع اختارها في فلسطين والأردن ودمشق وحمص.
في نهاية العصر الأموي ونتيجة الإهمال الأموي للقصر أصابه الخراب قبل أن تلتهمه النار في عصر الفاطميين كما يروي ابن كثير: «ألقيت نار بدار الملك وهي الخضراء المتاخم للجامع من جهة القبلة فاحترق… وباد الخضراء فصار كوماً من تراب».
وكان القصر قد استعمل في العصر العباسي داراً للشرطة وضرب النقود، ولعله رمم فيما بعد.
وبقيت المنطقة التي كان فيها القصر تحمل اسم الخضراء إلى أيامنا هذه.
وهكذا فإننا لا نعرف عن هذا القصر إلا الملامح التالية: موقعه المؤكد الذي سبق عرضه، قبته الخضراء، بناؤه المحتمل على أنقاض قصر سابق للإسلام كما أشار ابن عساكر، مادة بنائه الأولى الطوب والخشب ثم أعيد البناء بالأحجار والصخور.
وتروي الأخبار أنه كان قصراً تحف به الحدائق والأشجار وأنواع الورود ويطل على سهل وسيع، وتحدث صاحب الأغاني عن هذا القصر وعن كرسي الخلافة به على هيئة سرير تشبهاً بالفرس، وأن هذا الكرسي مربع الجوانب تستره الوسائد المطرزة الفخمة. ومعاوية أول من استعمل كرسي الحكم عند العرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن