ثقافة وفن

إحدى وظائف الفن هي تثقيف المتلقي بطريقة ممتعة … قصي قدسية لـ«الوطن»: أنا لست متعالياً ولكني لا أغامر وأؤمن أن فرصتي ستأتي

| سوسن صيداوي

ركيزة ثقة الثقافة. في خضم الاستسهال والبلوغ السريع للأهداف، مع سلوك الأمور المعوجة في الوصول، أصبحت العادة دارجة، لإثبات النفس وتسليط الضوء على الاسم في نيل الشهرة. لكن هذه الأفكار المعتنقة للكثيرين هي مرفوضة وبشكل قاطع من البعض الآخر والذين هم قلة أمام التحديات. ومن قلة البعض هناك اسم موروث وله في الثقافة والركيزة الفنية الثابتة ما لا يمكن أن يستهان به. الاسم يعود للفنان قصي قدسية ابن الفنان القدير زيناتي قدسية. حسن التربية ووعي التنشئة والدقة في المضي في الخيارات، مع صقل الموهبة والابتعاد عن الوساطات، ورفض التبعية المنافية للمبادئ الراسخة، خلال مشوار فني منوع ما بين المسرح والسينما والدراما إضافة إلى الدوبلاج، محطات يمر بها الفنان قدسية الشاب، محققا حضورا لافتا، ونجاحا مميزا، غير آبه للزمن في المضي سريعا، بل همّه الأكبر هو تثبيت نجوميته واستمرارها رغم ما يدور في الساحة الفنية من تبعات الشللية. اليوم وفي لقاء مع قصي قدسية يسلّط الضوء على الكثير من النقاط المهمة والقضايا سواء في المسرح أو الدوبلاج، إضافة إلى الكثير من الأمور والإشكاليات التي تطرق لها خلال حوارنا معه، وإليكم التفاصيل:

على الرغم من الحرب الدائرة في سورية إلا أننا نشهد عروضاً مسرحية لم تتسع صالات عرضها للجمهور، منها دائرة الطباشير للفنان أيمن زيدان وإكليل الدم للفنان زيناتي قدسية، والمسرحيتان أنت شاركت بهما، برأيك ما سبب استمرار المسرح؟
إن من يعش تجربة الحرب الأخيرة في سورية بكل ما احتوت من بشاعة وإرهاب، مضافاً إليها حربنا الأساسية مع الكيان الصهيوني، يصعب عليه أن يثمر شيئاً ليس على المستوى الفني فقط وإنما على كل المستويات. لكن لدينا من الأسباب ما يكفي لنستمر في مسرحنا فنحن أحفاد أبي خليل القباني رائد ومؤسس المسرح العربي. إنه تراثنا، تاريخنا، وثقافتنا التي نباهي بها أمام شعوب الأرض، على الرغم من بعض فترات الركود تارة، وفساد مسرحي تارة أخرى من خلال بعض العروض المسرحية التي انتهزت فرصة الحرب ووجدت مسرباً لتقديم الهزيل الذي يخلو من أي قيمة فكرية أو فنية حقيقية. سبب آخر ساهم في استمرار المسرح في سورية ألا وهو رعاية المؤسسة الرسمية الوطنية له وأقصد وزارة الثقافة متمثلة بمديرية المسارح التي موّلت ورعت العروض المسرحية على مدى عقود. إضافة لوجود نخبة من المسرحيين المبدعين الذين تشبّثوا بوطنهم في سلمه وحربه وقدموا اللافت والجميل على مدار سنوات، مثال على ذلك أيمن زيدان وزيناتي قدسية اللذان ذكرتِهما في سؤالك وغيرهما الكثير من السوريين الذين لم يتنازلوا عن شرف هذه المهمة الإنسانية. والسبب الأهم لاستمرار المسرح هو طبيعة الشعب السوري الذي أدهش ويدهش كل شعوب الأرض يومياً بحبه للحياة وإيمانه بمنجزه الحضاري والثقافي رغم كل محاولات قضم تاريخه وتشويهه. فلا غريب عنه أبداً أن يتدافع إلى خشبات مسارحه ليتلّقى ما هو حقيقي وجميل.

العروض التي مثلّت بها والتي أخرجتها تندرج كما يصفها المختصون تحت ما يسمى «مسرح النخبة». لماذا هذا المسرح بالذات؟ ألا تستطيع من خلال «المسرح الشعبي»و اللهجة المحلية أن تعبّر عن رؤاك وتستنفر أدواتك لإيصال خطابك وأفكارك سواء كممثل أو مخرج؟
برأيي ليس هناك مسرح نخبوي أو شعبي أو حتى مسرح للشباب أو للكبار أو أي من تلك الأوصاف. هناك فقط مسرح يحلّق في فضاءات الجمال والإبداع، أو لا مسرح. مسرح يتلقاه البسطاء والمثقفون معاً، مع العلم أنه قد لا تصل كل الإشارات في العرض المسرحي لمجموعة من المتلّقين البسطاء، إلا أنهم يحسّون بها من خلال طاقة التلّقي الكامنة التي تملكها أرواحهم. عدا عن أن إحدى وظائف الفن عموماً والمسرح خصوصاً هي التثقيف، تثقيف المتلقي، التثقيف المغلف بالمتعة. إذاً كيف يستطيع البشر أن يتلّقوا أفلاماً سينمائية كبيرة بمضامينها متطورة في شكلها على الرغم من أن الملايين منهم ليسوا مثقفين أو مختصين سينمائيين؟ وكيف لعامة الناس أن يشاهدوا ويتمتعوا ببرامج وثائقية قد تكون بعيدة كل البعد عن تراثهم وثقافتهم؟ وكيف للعالم أجمع أن يتلّقى الموسيقا والأغاني على اختلاف بيئاتها ولغاتها ويتمتعون بها بل يحفظونها عن ظهر قلب؟. وكيف للجمهور السوري على اختلاف شرائحه أن يتلقّى المسرحيات الوافدة إلينا من خلال المهرجانات ويتمتع بها ويفك مغاليقها؟مثال على ذلك عروض الفرنسي فيليب جانتي وغيره؟ وكيف للجمهور السوري أن يتلقّى عطيل وفاوست ودائرة الطباشير وغاندي والخادمات وغيرها من العروض؟ إذا والمهم برأيي ليس شكل الخطاب في المسرح، إنما معناه وعمق صياغته وكيفية التعبير عنه. والمثقف الحقيقي هو من لديه الموهبة والاقتدار على إيصال أفكاره للناس على اختلاف شرائحهم بما ينجزه من جمال وسحر وإدهاش وبغض النظر عن وسيلة الإيصال سواء باللغة الفصحى أم العامية أم لغة الجسد أم الموسيقا وغيرها.

عملت مخرجاً مع والدك في مسرحيتي(أبو شنار)و(غاندي) وفي تعاون فني في(كأس سقراط الأخيرة). ألا يربكك الأمر وأنت في حضرة قامة مسرحية كبيرة كزيناتي قدسية؟
زيناتي قدسية من الممثلين والمخرجين الكبار الذين يضيفون لك. إنه كتلة من العطاء والتوهج والفرادة، وهو مشتغل مسرحي يبحث في أماكن محفوفة بالمخاطر، ينبش عميقاً في مساحات مختلفة ليستنبط الجديد، مثقف وطني انطلق من ثوابت وطنية واجتماعية لا لبس فيها أو زيف، مبدع جعل من عروضه على مدار خمسين عاماً لساناً ينطق بكل ما هو لافت وجميل. وهو من قلائل المخرجين الذين يقدرون قيمة الصمت الذي تخافه الأغلبية. وكما قيل عنه: «ليس ممثلاً ومخرجاً وكاتباً مسرحياً فحسب، إنه مثقف بالدرجة الأولى ومسلّح بمعرفة تبوئه موقعاً متقدماً في الإبداع المسرحي». إضافة لكونه رائد فن المونودراما في المشرق العربي. لكل ذلك وغيره فإن من يعمل تحت إدارته أو معه ينبغي أن يكون على دراية ومعرفة كبيرة كي يتناغم مع أفكاره ورؤاه وتجلياته، ولا أدّعي أنني أملك هذه المؤهلات إلا أنني من خلال إنصاتي لما يقول ومراقبتي لطريقة عمله التي أدهشت الكثيرين ممن تلقوا مسرحه، وفهمي لكيفية تحليله وتركيبه للأشياء، إضافة لعلاقتي التاريخية به كونه والدي، استطعت أن أعمل بشراكة معه في أكثر من عرض مسرحي.

لماذا أنت ممثل متعال على الدراما التلفزيونية -مشاركاتك فيها معدودة- على الرغم من أنك متمّكن من أدواتك وتمتلك العناصر الجاذبة في شخصيتك. وبالعامية «الكاميرا بتحبك»؟
لا لست متعالياً أبداً. أنا كممثل لا أملك خيار أن أكون في هذا المسلسل أو ذاك. أنا اُستدعى للمشاركة في عمل أو لا أستدعى. وعندما أستدعى فأنا أملك خيار الموافقة على الدور الموكل لي. فأحياناً لا تكون الشخصية تناسب ما أطمح إليه. وأحياناً أتناغم معها، إلا أن الشرط المالي لا يكون مناسباً. وأحياناً أكون مرتبطاً بأكثر من عمل فلا أستطيع الارتباط بهذا المسلسل أو ذاك. وأحياناً أرفض المشاركة في عمل ما لأن مقدمات إخفاقه تكون شاخصة أمامي، فلا أغامر، وهذا حدث أكثر من خمس مرات خلال السنوات الفائتة. أنا أؤمن أن فرصتي في الدراما ستأتي يوماً ما. على الرغم من أنني شاركت بأكثر من عمل تلفزيوني مع مخرجين كبار أقدرهم جداً، أمثال الأساتذة نجدة أنزور وباسل الخطيب وسمير حسين وحاتم علي وهشام شربتجي وغيرهم.

هل الصوت المميز وإجادة اللغة العربية هو من جعل من قصي قدسية اسماً مطلوباً بكثرة في عالم المسلسلات المدبلجة والأفلام الوثائقية؟
لا شك أن الصوت المميز تصغي إليه الأذن، إلا أنني أؤكد أنه «في فن الدوبلاج ليس بالصوت وحده يحيا الممثل». الأداء المتقن للممثل هو سر نجاحه في الدراما أو المسرح أو السينما أوالدوبلاج. فمن يدبلج يجب أن يكون بالدرجة الأولى ممثلاً موهوباً ليوصل المعنى باستخدام صوته فقط، فالصوت هو الأداة الوحيدة التي تعبّر من خلالها عن الشخصية وأحاسيسها، تجلياتها وانكساراتها، هدوئها وجنونها، وفي الدوبلاج لا يمكنك الاستعانة بتعبيرات الوجه أو لغة الجسد أو مساعدة الممثلين لك على خشبة المسرح وتفاعل الجمهور معك. لذلك الدوبلاج هو من أصعب أنواع التمثيل. من هنا أقول:ثمة فرق كبير بين ممثل يدبلج ومدبلج يدبلج. وفي النهاية لا أحب أن يتم استقدامي لدبلجة شخصية لأن صوتي جميل أو محبب للأذن، بل أفضل أن يتم التعامل معي باعتباري ممثلاً يجيد عمله.

من المعروف أنك من مؤسسي تجمّع صوتنا فن التابع لنقابة الفنانين وأنك انتخبت لتكون عضواً في مجلس إدارته. ماذا حقّق التجمّع للعاملين في هذا الفن؟
سنة تقريباً من العمل الدؤوب على كل المستويات فيما يتعلق بعمل الممثل. حيث استطعنا أن نحقق أكثر من إنجاز وأقول إنجاز لأن ما وصلنا إليه كان بشق الأنفس وكثير من الجهد والنقاش المحموم من هذه الإنجازات وأننا حققنا مع جميع الممثلين أجراً جديداً مقبولاً في الأعمال الدرامية. وأجراً مقبولاً في الرسوم المتحركة. وإلغاء عقود مبرمة بين بعض الشركات وبعض الممثلين ضمن الأجر القديم. وحل خلافات البعض مع مجموعة من الشركات والعمل على إعادة فتح الباب لهم للعمل فيها. وانتزعنا احترام الجهات الرسمية للعاملين في هذه المهنة من خلال تبني نقابة الفنانين للمشروع ودعمه. وتم استصدار قرار نقابي بمنح مقعد لعضو غير نقابي في مجلس إدارة التجمع لتمثيل الأعضاء غير النقابيين ولقد انتخبت لأشغل ذلك المقعد، وهذه سابقة يعود الفضل فيها للأستاذ زهير رمضان المحترم والصديق إياس أبو غزالة الذي انتخب بعد ذلك رئيساً للتجمّع وكان لإنجازاته وقع كبير في سورية وخارجها. وكنا نحضر لأكثر من مشروع على مستوى المهنة، لكن كانت الاستقالة وبرأيي كان لا بد منها.

ما السر وراء الاستقالة الجماعية المفاجئة لمجلسكم بعد أقل من عام؟
لقد وصلنا إلى مرحلة بتنا فيها عاجزين عن إرضاء الناس. نحن كمجلس إدارة لم يكن لدينا مكان لنجتمع فيه، بل كنا نجتمع في أماكن عامة أو بيوتنا أو مقرات عملنا. ولم يكن لدينا أي إيراد مالي لتغطية الأعمال التي كنا نقوم بها من ورقيات ومواصلات وتبليغات وتلفونات ولقاءات واجتماعات وغيرها. والحقيقة أننا تُركنا وحدنا لنقوم بكل شيء، فلا ناصر ولا متعاون إلا ما قلّ وندر وفقط بالكلام لا بالأفعال. فهناك شريحة من أعضاء التجمع تريدنا أن نكون قديسين لا نخطئ ولا نغضب، دبلوماسيين، نمتهن ثقافة درء المشاكل، إما نعمل أو لا نعمل كثيراً في مهنتنا لأننا أصبحنا مجلس إدارة مع أننا ممثلون.
وهناك شريحة تريدنا أن نكون قساة لا مهادنين وأن نقيم الدنيا ولا نقعدها في حال ورود أي مشكلة أو سوء فهم، حتى وصل أحدهم حد مطالبتنا بأن نتحدث مع شركة لإرغامها على وضع مناديل إضافية في حماماتها. وغيره طالبنا بأن نحاسب شركة لأنها استبدلته من راكوره. إلى كثير من الطلبات التي لا تصدق.
وهناك شريحة تمدحك هنا وتذمك هناك، هنا يثنون على فعلك وهناك يتنكرون له. إذا حققت لهم مطلباً مشروعاً هم للمشروع داعمون وإن اختلفت معهم بوجهة نظرهم هم لك وللمشروع ذامون هدامون.
وهناك شريحة موجودة فقط أسماؤهم في قوائم هذه المهنة وليس لهم قول ولا فعل إنما على الحياد والنأي بالنفس واقفون و«تخرب تعمر ما بيهمني إلا حالي».
وهناك شريحة -أنتمي إليها- ما زالت مصّرة على أن تسمي الأشياء بمسمياتها، دبلوماسية في المواقف التي تتطلب حكمة وروية، وحاسمة في المواقف التي تتطلب حسماً، تفكر بإطار وصالح الجماعة لا الأفراد.
والحقيقة أننا لم نعد نستطيع العمل ضمن تلك الأمزجة والأهواء التي بلغ بعضها الكثير حد النكران والتجريح وأحياناً الإهانة، ففضلنا الاستقالة وأن تُجرى انتخابات جديدة بزملاء جدد يضيفون على المنجز ويطورونه. إلا أنه ومع الأسف واجهت الإرهاصات نفسها عضواً من أعضاء المجلس الجديد فاستقال. وتلك المشاكل نفسها تقريباً واجهت رئيس التجمع الجديد فأدت به إلى الاستقالة.

ما ردك على ما يقال عنك بأنك «نجم الدوبلاج الأول عربياً»؟
بداية النجم هو شخص مشهور بالنجاح في مجال معين. والقيم الأخلاقية والفنية هي أساس للنجومية في أي مجال. إذ لا نجومية بلا تعب وعطاء وتطوير. فالقيم قبل العمل، والمبادئ قبل المصالح. النجومية هي معادلة متكاملة، وليس أمراً واحداً سيجعل منك نجماً. فمن يعتبرني نجم دوبلاج عربياً فلا مانع لدي ضمن الإطار الذي تحدثت عنه. لكن أفضل أن يقال عني بأنني ممثل يجيد عمله فقط. فمفهوم النجم بالنسبة لي قد يُلصق بصاحبه قناعاً على أفعاله وردود أفعاله، وقد يُفقده بعض من براءته وصدقه وفطرته فلا يكون حقيقياً. وأنا أحب أن أتعامل مع من حولي على طبيعتي بلا أقنعة وبمشاعري الحقيقية.

ما حلمك في الحياة؟
أن أبقى كما أنا، لا يغيرني شيء إلا إن أردت التغيير بإرادتي. أن أعيش بكرامتي وأصون كرامة عائلتي. أن أكون باراً بأهلي وأتمتع بحياة وصحة جيدة أنا وزوجتي وأولادي. أن أبقى في وطني ولا يأخذه أحد مني. وألا يعبث أحد بحلمي. كل ذلك من خلال مهنتي، عشقي.. الفن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن