من دفتر الوطن

لو كان لي…

| زياد حيدر 

لو كان من أغنية خُيرت في أن أسمعها كأغنيتي الأخيرة، قبل رحيل طويل أو أبدي، لاخترت من دون تردد «رح حلفك بالغصن يا عصفور»، ولرددت كلمات وديع الصافي لرسوله الطائر الصغير لـ«الورق والفي والنبعات» ولـ«حلوة بإيدها كتاب» عائدا بحفنة «تراب من تحت رجليها»..
ولو كان لي أن أُخَيّر رائحة أخيرة لاخترت رائحة اللوز أول انتعاشته الربيعية، فلا رائحة تبعث شهوة الحب في نفسي مثل رائحته.
ولكن لو كان لي أن أختار وجها، لحيرتني كثرة الوجوه التي أحببتها، حدود العشق، وما بعده، بشكل يصعب علي تحديد مستواه.
كنت اخترت وجه أمي وهي تسقي وردات الدار كل صباح، منحنية على الجوري الأحمر تظللها الياسمينة التي تعتلي مدخل البيت الريفي.
وأيضاً وجه ابنتي الصغرى حين تلتقي مصادفة بوجه «بطلتها» صديقتنا المغنية والطبيبة في آن. ووجه طفلي الأوسط محظوظا بتسجيل هدف في مرمى يكبره بعشر مرات، أو ابني الأكبر متوصلا لاستنتاج كبير بعد نقاش جدي مع جدته الثالثة، جارتنا وقريبتنا الأجنبية.
لكنت أيضاً أغمضت عيني على وجه زوجتي وهي تعانق أولادنا قبل النوم، متشرباً معها ذلك الأمان الداخلي الغريب، والمهدد بمفاجآت الغد الذي نشعر به كل ليلة.
لكنت تذكرت الوجهين الودودين لصديقي الطفولة والنضج، يرفعان كأسيهما للثالث، الغائب من دون أن يغيب دفئه. كنت أيضاً تأملت طويلا وجها محبا آخر، تفاجئ محبته، بقدر عزلته.
كنت تذكرت وجوها كثيرة أخرى أبعد، ولكني أكتنز لها حباً عظيماً. وجوه أشخاص أقرباء، وغرباء، فاجؤوني دوماً بقدرتهم على تقديم حب خالص، وصاف، محرر من كل المصالح التي تخطر ببال.
أكرر دوما لأولادي أن لا شيء يأتي بالمجان، ولكن علينا أن نصدق أحياناً، أن ثمة حباً يأتي من أشخاص مملوءة بالحب، ولا تطلب مقابلاً. وإن طلبت، فأن نبادلها الحب والاهتمام لا تطلب هدية، ولا معونة، ولا تنازلاً، ولا شروطاً، وإنما ترغب في أن تراك سعيداً، وإن تمنت من دون إعلان أن تكون حاضراً بجانبها حين تحتاجك.
هذا كله حب. درجات منه، ومستويات، صعبة التوصيف أحياناً، ومتداخلة كثيراً من الأوقات. نتعرف عليها ونحن نتقدم في السن، تحيرنا أحياناً، ويصعب علينا تحديد مصدرها وأصلها.
هل هي العشرة الطويلة؟ هل هو ما مررنا به معاً؟ هل هي تلك النظرة الخاصة؟ هل تلك النظرة سبب الحب، أم إنها خلاصة عنه؟ هل أضحي بالغالي من أجله، هل يضحي بالغالي من أجلي؟ هل هو حب أم إنه ألفة؟ هل هو حب أو صداقة؟ هل من صداقة حب؟
والأسئلة ذاتها بين الجنسين، كما بين الجنس الواحد. وأحياناً بين حيوان أليف وإنسان، فالحب هو الحب، ونظرة الحب يمكن رؤيتها بالوضوح ذاته في عيني كلب أليف كما في عيني إنسان. لذلك ربما كثر منا عاشوا حياتهم هاربين من الحب، ولاجئين إليه معاً. نهرب منه حين نشك في أن كلفته عالية، يذهب بنا إلى حيث لا نحتمل الأثمان، ولاجئين إليه حين يأتي صافياً من غير تضييق كبير أو مخاطرة. كله حب، وكله غريب وغامض. كله جميل وآسر. كله مكلف، في الواقع، وكل كلفته محمولة، أو ممتعة. وإلا فهذا لا يمنع كونه أغرب المشاعر البشرية وأجملها. عيد حب سعيد لمن استطاع إليه سبيلا..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن