ثقافة وفن

هزوان الوز يشرّح المجتمع الثقافي والسياسي الانتهازي … «معرض مؤجل» تبحث عن مجريات الحرب في صفحاتها الأخيرة .. «اللوحة الناقصة» هل تكتمل في المتبقي من الثلاثية أم تبقى ناقصة؟

| إسماعيل مروة

«الكاتب يمضي في سرد الأحداث على السجية كما يقال، بل على الفطرة، ولا يعنيه أمر التجريب الفني أي شيء، المهم لديه أن يدع لبطله أن يتكلم، بل أن يستفيض بالكلام من دون ضابط لتدفقه وهو يحكي حكاية أسرته، والحي الذي ولد فيه وعاش، وتلك ميزة تسجل للرواية لا عليها» ص111
هكذا يتحدث الروائي هزوان الوز في سياق الجزء الأول من ثلاثيته (معرض مؤجل) حين يعرض لرواية ضاعت في أدراج البيروقراطية الثقافية حتى جاء من ينتشلها من الأدراج ليقرأها ويقوّمها التقويم الصحيح.. وقد اخترت أن أبدأ الحديث عن هذا الجزء من الرواية من قضية الرواية والتجريب لأدخل في قضايا فنية في تجربة هزوان الوز.

التجريب والتجربة
ليس هذا العمل يتيماً في تقنياته، فقد سبق لهزوان الوز أن قدّم رواية صدرت العام الماضي تحمل عنوان دمشق استفادت من الأسلوب السردي ذاته، ففي تلك الرواية بدأ الوز تجربة استنهاض النص الدمشقي الموجود في بطون الكتب والمخطوطات، وهذه التجربة، أو هذا التجريب فيه ضرب من المغامرة الروائية لا يقدم عليها إلا عدد من الكتاب، فبعد أن جرّب هاني الراهب ذات يوم الرواية الموثقة التي تحمل الحواشي، وجرّب الغيطاني استحضار النص القديم، خاصة ما يعود إلى العصر المملوكي، جاء هزوان الوز ليسلك سبلاً أخرى، في صناعة النص الخاص به، والدلوف إلى النصوص الأخرى ذات المساس بموضوعه، وهو هنا لا يتماهى بالنص المقبوس، ولا يغيب في الحكاية القديمة، ولا يهضمها لنفسه، إنما تأتي لتطور حدثاً أو لتعزز رأياً، أو لتقول: إن ما حدث اليوم حدث من قبل، أو كان قابلاً للحدوث، وأقول من قبل، لأن الروائي في إشاراته وإحالاته لم يعتمد نصاً واحداً، ولم يأخذ زمناً محدداً، بل إن زمن دمشق يتطاول من النصوص القديمة لمعجم البلدان وصاحبه ياقوت الحموي إلى عزيز العظمة مروراً بالبديري الحلاق، وصولاً إلى أبيات شعرية تخدم نصه الروائي، مع زجّ اسم الشاعر والشعر.. أما التجريب الحياتي فقد جاء به متضمناً بالرواية كالحديث على لسان بطله عن الفكر بتنوعاته والفن والأغنيات، لتنسرب أغنيات أم كلثوم وسواها في النص الروائي بعناوينها ومقاطع وأسماء أخرى كثيرة بغية خدمة النص والحدث الروائي، وربما كان للموازنة بين ما كان وما هو موجود، وما يمكن أن يكون مستقبلاً.
في (معرض مؤجل) أخذ التجريب غايته عند هزوان الوز، وبلغ التجريب غايته عنده في المزج بين صفات الرواية التي يعرض لها، وانسيابها على لسان بطلها دون حاجز أو ضابط، وبين هذا التجريب، وكأنه بوعي مطلق يريد أن يصل إلى المستويات القرائية التي حددها «مضى الكثير من الكتاب في بناء نصوص سردية تتطلب قراء نوعيين، بل قراء نخبة على نحو أدق، أي قراء تزودوا بحصيلة معرفية غير قليلة بإنجازات الرواية الحديثة وتحولاتها» هذه المزاوجة التي اختارها الروائي الوز حققت له الكثير من مواصفات النجاح الروائي، فالنصوص ذات سوية تحتاج ثقافة عالية تراثية، والحكاية تم سردها بنجاح وبساطة.. فماذا عن المعرض المؤجل؟!

ما مضى برؤية واقع الحال!
اختار الروائي (القابون) مسرحاً لروايته وبطله الذي تماهى معه في عدد من المواضع حين أعجب بالرواية من موقعه، وهذا الاختيار اليوم، وأؤكد على اليوم، وضعه أمام معادلة تنطلق من اليوم، لا تنطلق من الواقع، فهل كان المسوّغ وراء الآنية ما قام به المسؤول الثقافي من حجب الرواية في الأدراج المنطلق إلى العودة بمنظور اليوم؟!
إن التوجس الموجود في الرواية من مجتمع القابون، أو مجتمع جوبر، أو غيرهما من المجتمعات هو توجس لحظي آني، ولم يكن في تلك الحقبة، والصورة التي نراها في الرواية هي صورة اليوم، وليست صورة ما قبل ثلاثة عقود، ومن حسن الحظ أنني أعرف تفاصيل هذه المنطقة بدمشق، التي استوعبت كل قادم إليها، واحتوت المنشآت العديدة التي خصتها بها الدولة.. وما قدمه الروائي فيه نظرة من إنصاف، لكنه لم يقف عند المجريات والأسباب التي أوصلت إلى نتائج نراها اليوم. وفي كثير من المواضع يحاول الروائي على لسان البطل وأمه وأبيه أن يفلسف وجود أسرة مسيحية هي الوحيدة في القابون، وهذا أمر لا يحتاج إلى مثل هذه المعالجة إلا من منظور اليوم، أما من منظور ذلك الزمن الذي تتناوله الرواية، والذي عاشه جيلنا، فلم يكن من الوارد معرفة مسيحية الإنسان من إسلاميته، ولا يخطر ببال أحدهم، وأنا شخصياً درست في برزة والقابون، ولم نعرف أن زملاءنا يختلفون عنا بشيء، إلا بفضل المناهج التربوية، عندما خرج زميلان لنا بطلب من أستاذ التربية الإسلامية من درس الديانة وسط دهشتهما واستغرابنا، فما بالنا بالمجتمع البسيط الطيب؟!
وقد أسبغ المؤلف على المجتمع صفات من الطيبة والتآزر مع الأسرة القادمة إلى القابون، مع أنه وضع أكثر من عائق كان من الممكن أن يحول دون هذه المساعدة، فالشخص مسيحي، وشيوعي، وأشياء كثيرة، لكن التقبل كان تاماً، والمساعدة كانت فوق التخيل، وأعطوه أرضاً وساعدوه بالبناء، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف تشيطن هذا المجتمع؟ هل تغيّر من تلقاء ذاته أم إنه وقع تحت مؤثرات عديدة؟ وهل يكفي أن أجعل رجل الدين الإسلامي يشرب الخمر مع البطل لأظهر إيجابية؟ وهل هذه المجاملة حقيقية؟
«فأمسكت كأس الكحول، وقلت لصديقي الشيخ: بصحتك.. الوطن بخير، والأيام القادمة سوف تثبت ذلك!»
«منذ بدأت الحرب تفح بسموم نارها في البلد تحول هذا الشاعر قبلاً والمدير فيما بعد، إلى محلل سياسي يتقافز بين فضائية وأخرى، ويقال، والعهدة على القائل كما يقال، إن ذلك هو ما مكنه من الوصول إلى هذا المنصب.. وكان يردد في جميع إطلالاته التلفزيونية عبارة: الدفاع عن الشعب وقضاياه، تلك اللازمة التي يرددها الفاسدون أكثر من غيرهم، فباسمه يتصدرون، وباسمه ينهبون، وباسمه يحكمون بأمرهم كما يفعل المستبدون..»!
ولننظر الآن إلى اقتباسات اخترتها من صفحات متقاربة لنصل إلى نتيجة منطقية في القراءة:
«أمي ترضع أولاد جيراننا وجاراتنا يرضعن إخوتي، أهل الحارة جميعاً كانوا إخوة في الرضاعة..»!
«عندما بدأ الدين يتكلم بصوت عال بدأت أصوات السياسيين والانتهازيين تعلو أكثر»!
«عندما يمرض أحد إخوتي لا تأخذه أمي إلى الطبيب، بل إلى الشيخ، يقرأ بعض آيات القرآن عليه ويتحسن فوراً»!
هذه المقاطع هي أجزاء كبيرة التعبير، وتتكرر في مواضع عديدة وبأشكال عديدة تضع اليد على مشكلات كانت وراء ما وصلت إليه الحال في المعرض المؤجل للمشهد العربي والسوري، ويمكن بقراءتها أن يتم إكمال المشهد في اللوحة الناقصة فنحن أمام:
– مشهد متناقض، فالشباب العلمانيون يذهبون وراء قنص الموقع، وهم يتقافزون من موقع إلى موقع، ولا تنتهي صلاحية أحدهم، وحتى عندما يصبح بعيداً عن الموقع، فإنه يملك القدرة على التنظير الذي يدعو إلى الاشمئزاز، ناهيك عن تتبع الروائي لحياة هذا الشخص في مواقعه، وهو الذي يحارب أي طاقة أو قدرة يمكن أن تشكل بؤرة نور.
– عادات اجتماعية تحوّل أبناء المجتمعات إلى إخوة في الرضاعة، دون الالتفات إلى النسيج الديني والقومي والاجتماعي.
– انحياز الخطاب الثقافي والتربوي والتنويري إلى الخطاب الديني على حساب الخطاب السياسي، ذلك لأن الطبقة السياسية التي تشكلت كانت الانتهازية وليست مبدئية، لذلك عندما يتحدث الدين، فإنهم في أحسن الأحوال يصمتون لصالح المنفعة التي تتوافق مع الخطاب الديني!
– الثقافة الاجتماعية جعلت المعتقدات متقاربة، فهذه المسيحية تذهب إلى الشيخ لقراءة القرآن على ابنها المريض، ويشفى، وهذه حقيقة، لأن الروح والتأثير هما السبب في الإيحاء بالشفاء.
ويمكن أن نضيف الكثير من العادات التي كانت تسود في مجتمعاتنا، فالنذور الإسلامية كانت تتوجه إلى دير السيدة مريم، ويتوسل أصحاب الحاجات بيوحنا المعمدان (النبي يحيى) وهكذا.. ما يعطي المشهد المكتمل.. وفي سياق حكائي يظهر الوز أمراً سائداً في الجوانب العلمانية ومن خلال الأحزاب اليسارية، وهي الانحياز لصالح المنفعة والمال والدين.
خروج عن المنهج

«واستمر نشاطي في الحزب الشيوعي بحسب توجيهات أبي من أجل الحصول على المنحة الدراسية إلى موسكو،.. المهم أن أرى موسكو وأتعرف إلى الحزب الشيوعي من قرب.. أعطوني استمارة حتى أملأها بخياراتي.. ولم أبعث إلى موسكو.. وذهب أكثر من شخص من أولاد الرفاق المدعومين في الحزب، وفشل مشروع أبي الثوري ومخططه.. كل الأولاد الذين أرسلهم من أكابر وبرجوازيي الحزب الشيوعي».
معالجة موفقة لأسباب إخفاق الأحزاب العلمانية والثورية، وافتقادها للحاضنة التي تزعمت بسببها، وما من حزب من الأحزاب لم يقع في هذه المشكلة المصلحية، من الأحزاب الشيوعية إلى حزب البعث إلى الأحزاب الاشتراكية ذات التوجه القومي والناصري، وفي كل حي وشارع وقرية حكاية لمثل هذا الإخفاق، ما أوصل عدداً غير قليل من أصحاب البورجوازية إلى موسكو، ليبقى الفقير الشيوعي من اختصاص توزيع المناشير والدخول إلى الزنزانات.
وقد فرش الكاتب الروائي في الرواية نماذج كثيرة من هذا الفساد الحزبي، وهو وإن اختار الحزب الشيوعي، فهو يعمم ذلك في كثير من المواضع، ولعل بناء الرواية على خلل في المؤسسة الثقافية، ومحاربة المواهب لمصلحة صاحب المصلحة والمنفعة، فهو قد اختار إشارات ليقول: إن ذاك الغيم هو الذي جلب هذا المطر.. الرواية تجيب عن آليات تشكل مثقفي السلطة.
الحكاية تشرح فساد النخب السياسية في الأحزاب العلمانية.
الراوي الفنان يجوب بحرية كل الفضاءات السياسية والدينية والفنية.
وتستمر الرواية لأنها رواية أجيال إلى الحرب التي شنت على سورية، وتتحدث عن الحرب، وهذا ما دفعني إلى نوع من الاعتراض على رواية ما مضى بلسان الحاضر، وخاصة أن الراوي حسب الروائي لا يكتب اليوم، ففي الأدراج كانت روايته مخفية بالبيروقراطية الثقافية.

وأخيراً
تأتي رواية (اللوحة الناقصة) الجزء الأول من ثلاثية (معرض مؤجل) سيرة متعاقبة لأجيال سورية، تقارب ما جرى على الأرض من حرب وخراب، وترسم المعالم التي هيأت لمثل ما حدث بسبب خيبات الأحزاب السياسية العلمانية، والفساد الذي استشرى في مؤسسات الدولة والأحزاب، فحوّل البساطة إلى حقد تحمل الأحزاب السياسية والسلطات الوزر الأكبر.. ولابد من قراءة متمعنة في الرواية للوصول إلى هذه الغايات بمتعة السرد والمرايا التي اختارها الروائي في (دمشق) وبقي محتفظاً بها تكنيكاً خاصاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن