قضايا وآراء

الميليشيات المسلحة في مدارات الاستقطاب

 عبد المنعم علي عيسى : 

يمكن القول إن الصراع بين جبهة النصرة (تأسست في تشرين الثاني 2011) وبين تنظيم الدولة الإسلامية (تأسس 13 تشرين الأول 2006) هو صراع وجودي لا مجال للمهادنة فيه، إذ إن كل طرف من طرفي الصراع يدعي الشرعية لنفسه دون الآخر، منذ أن أعلن أيمن الظواهري 11/11/2013 أن جبهة النصرة هي صاحبة الولاية في سورية لاغياً بذلك شرعية داعش، الأمر الذي رد عليه البغدادي بأنه ضمّ فرعي القاعدة في سورية والعراق، ليتأكد أن الصراع قد بات بنيوياً وعميقاً وإلغائياً، وانطلاقاً من الرؤيا السابقة يمكن القول إن الصراع بينهما هو أمر حتمي ولو فرضت بعض التطورات الميدانية تحالفهما في موقع ما، إذ سرعان ما ينفجر الاقتتال في مواقع عديدة حتى مع الفصائل التي يشتبه في أنها ذات ميول داعشية، الأمر الحاصل حالياً في الجنوب السوري منذ أن أعلن لواء شهداء اليرموك (تأسس في آب 2012 على يد أبو علي البريدي) عن تأسيس محكمة شرعية (ثم شرطة إسلامية) في قرية الشجرة بريف درعا التي تعتبر المعقل الأهم للواء اليرموك، إلا أن العامل الحاسم في تحديد التوجهات الداعشية لهذا الأخير لم يكن يتمثل في الخطوتين السابقتين وإنما في البيان الذي أصدر للإعلان عنهما، فقد جاء فيه أنهما (خطوة في التمكين) وهو تعبير تقليدي لطالما استخدمه تنظيم الدولة لتثبيت هيمنته في أي منطقة يسيطر عليها.
أعلن في 20 حزيران 2015 عن تأسيس جيش الفتح في الجنوب (جيش الفتح في الشمال تأسس في 25/3/2015) وضم بشكل أساسي جبهة النصرة وحركة أحرار الشام (تأسست 11/11/2011) وجند الأقصى الذي تأسس على يد أبو عبد العزيز القطري انشقاقاً عن الجولاني في تشرين الثاني 2014، شكلت الهزائم التي تعرض لها جيش الفتح في الجنوب إضافة إلى حدة الاستقطاب الخارجي لمكوناته الأرضية المثالية لبروز الخلافات بين تلك المكونات، وما يلاحظ على أداء جبهة النصرة يمثل دليلاً قاطعاً على أن التنظيم يمر بمرحلة عصيبة سواء أكان داخلياً أم خارجياً، فعندما يصل الأمر حد درجة الحرج بأي كيان سياسي فإنه يصبح معها شديد الحساسية تجاه أي حراك أو حليف أو حتى إشاعة، ففي الشمال السوري عمد قياديو جبهة النصرة إلى الدعوة لاجتثاث جند الأقصى بعدما اتهم أحد كوادرها باغتيال الشيخ مازن قسوم (25 تموز 2015) على غرار ما فعلته الجبهة مع حركة حزم عندما اغتالت هذه الأخيرة أبو عيسى الطبقة في تشرين الثاني 2014.
وفي الداخل أيضاً (داخل جيش الفتح) لوحظ صراع بدا أنه يعبر عن نفسه فكرياً أو سياسياً إلا أن الدينمو المحرك له لا يعدو أن يكون خلافاً يدار من الخارج تبعاً لمصالح كيس النقود الممول لكل فصيل من الفصائل.
منذ مطلع تموز المنصرم قام مسؤول العلاقات الخارجية في حركة أحرار الشام (لبيب نحاس) بنشر عدة مقالات في صحف غربية (؟!) منها واشنطن بوست مثلاً، كان محور تلك المقالات قضية العلاقة مع الغرب، الأمر الذي اعتبره (سامي العريدي) المسؤول الشرعي في جبهة النصرة تهديداً حقيقياً لبنيان التنظيم فـ«عدو الأمس واليوم لا يمكن أن يصبح حليف المستقبل» كما يقول ثم قاد ضده صراعاً حاسماً إلا أن مقالات نحاس كانت كمن رمى حجراً داخل بركة ماء راكدة أخذت دوائرها تتسع وتتسع لتلاقي صداها في قيادات داخل جبهة النصرة مثل أبو ماريا القحطاني ومظهر الويس وأبو عبد الرحمن الشامي وأبو صالح الحموي المعروف بأس الصراع في بلاد الشام، وقد ارتأى هؤلاء بأن توجه (نحاس) ليس فيه ما يتناقص مع مبادئ السياسة الشرعية كما أن توجهاً- مفترضاً- نحو الغرب سوف يكون أمراً ذا فوائد عديدة، وهم يستدلون على صحة خيارهم بدليل عملي يتمثل في نموذج حركة طالبان في تعاملاتها الدولية والإقليمية.
سارع العريدي مدعوماً بشيخي القاعدة أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني إلى خوض معركة اجتثاث لتيار نحاس الوليد فهذا الأخير نفسه كان قد دعا إلى فك الارتباط مع تنظيم القاعدة طلباً للدعم الغربي، بينما تبدى أن موازين القوى تميل بشكل واضح إلى جهة الأول (تيار العريدي) الذي ما انفك يوجه إلى الثاني الضربة تلو الضربة مثل عزل أبو صالح الحموي وإصدار الحكم بإعدام أبي حسين رحال المسجون لدى جبهة النصرة.
تتبنى حركة أحرار الشام فكر عبد الله عزام الذي أسس مع أسامة بن لادن تنظيم القاعدة في الثمانينيات قبل أن يقتل بتفجير سيارته في بيشاور (باكستان) في العام 1987، كان عبد الله عزام يرى ضرورة ابتعاد المقاتلين الأجانب عن التحكم بالمصائر السياسية للبلدان التي يحاربون فيها، وهذا الأمر هو ما يجعل التقارب بين أحرار الشام وتيار لبيب نحاس أمراً حتمياً، وهو ما يفسر قيام جبهة النصرة مؤخراً بالتخلص من قادتها السوريين الذي يميلون إلى التخلي عن نهج القاعدة.
ظهرت في الآونة الأخيرة محاولة واضحة من قبل بعض الفصائل السورية الإسلامية المتشددة لوضع المقاتلين الأجانب في سورية وجهاً لوجه أمام اختبار القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية وهو ما ظهر عبر الإنذار الذي وجهته جبهة النصرة إلى لواء شهداء اليرموك مؤخراً.
مرة أخرى تتوارد الأدلة على أن عمل التكفيريين كان سابقاً لقيام الأزمة السورية في آذار 2011 وأن ردود فعل النظام على التظاهرات لم تكن (كما قيل) هي الدافع وراء عمل التكفيريين، فقد كان عمل هؤلاء محسوماً ومهيئاً قبل أشهر من بدء الأزمة السورية، فقد ورد في البيان الذي أصدره أبو صالح الحموي رداً على قرار عزله أنه (أي الحموي) كان قد التقى بالجولاني في 23 رمضان 2011 (وهي توافق 20 أيلول 2011) وهو تاريخ سابق للإعلان عن جبهة النصرة بشهرين كاملين، وطلب منه الالتحاق بخراسان وترك داعش، وهنا ليس المهم في هذا الطلب الأخير بل في التاريخ الذي ذكره الحموي إذ إن من المعروف أن التنظيمات ذات الفكر القاعدي لا يمكن لها أن تصل إلى مرحلة أخذ البيعة واختيار قيادات الصف الأول إلا بعد مرحلة طويلة تتضمن تهيئة البنية التحتية والتخطيط والمراسلات وتأمين الدعم المالي، وهو عمل يتطلب فترة زمنية لا تقل عن ستة أشهر وقد تمتد إلى عام ومن الممكن أيضاً تدعيم الفكرة السابقة عبر ما أوردته مؤسسة السحاب (الذراع الإعلامية لتنظيم القاعدة) عن دخول قيادات جديدة من دولة العراق الإسلامية إلى سورية قبيل اندلاع الأزمة (الذروة كانت في شباط 2011 كما تقول) ومنهم أبو عبد العزيز القطري الذي أسس فيما بعد جند الأقصى قبل أن يقتل بريف إدلب أواخر العام 2014.
بعيداً عن أي مؤثرات سياسية أو إملاءات خارجية فإن فكر السلفية الجهادية محكوم بالتشظي والتشرذم إلى ما لا نهاية، فالخلاف يبدأ أولاً مع من يرتدون ربطات العنق ثم مع من لا يرتدون الزي العربي أو الإسلامي، ثم مع من لا يوافقهم في تفسير القرآن ثم مع من يخالف فتاوى الشيخ أبو بصير الطرطوسي (مثلاً) أو فتاوى أي أمير آخر ليصل (الخلاف) إلى كل من لا يتوافق معهم بالرأي 100% في متوالية هندسية لا تنتهي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن