ثقافة وفن

الأوغاريتي الذي غيّر مفهوم الحضارة

د.علي القيم : 

من أجمل وأروع ما قرأت عن عظمة الحضارة التي وجدت في أوغاريت «رأس الشمرا» على الساحل السوري، ما كتبه العالم الإنثروبولوجي الشهير «وليم هاولز» في كتابه «ما وراء التاريخ»… يقول: «يمكننا اعتبار العصر الحديدي منذ عام 1400ق.م، بمنزلة القمة التي وصلت إليها بعض أسس وأصول العصر البرونزي حيث اتخذت فيها هذه الأسس والأصول الصورة نفسها التي نعرفها اليوم، فعلى شواطئ الساحل السوري، أخذ شخص ما في رأس الشمرا «أوغاريت» تسعاً وعشرين من العلامات الكتابية السومرية، وجعلها تمثّل فقط العلامات البسيطة الأساسية (وليس المقاطع) ونبذ بقية العلامات التي كانت تقدّر بالمئات، والتي كانت لا تزال موجودة بكل معناها الرمزي، وكانت هذه حروفاً حقيقيّة هجائية، يمكن للإنسان أن يتهجّى بها أي شيء، وكانت هذه الحروف الهجائية التي تفرّعت منها كل الأبجديات المعروفة في التاريخ».
لقد تحوّلت الكتابة بفضل فعل هذا الإنسان السوري الأوغاريتي الذي لا نعرف اسمه، إلى حروف يستطيع أي طفل أن يتعلمها، ويعرف مدلولاتها ومعانيها، وقد قضت هذه التبسيطات على الامتيازات التي كان يحتكرها رجال الحرب والملوك والتجّار والكتبة، وقرّبت كثيراً الحضارة لعامة الناس، وقلّلت إلى حد كبير الفوارق الطبقيّة التي كانت القاعدة في العصر البرونزي في الألف الثاني قبل الميلاد… لقد اختزلت أبجدية أوغاريت مسيرة طويلة من البحث عن أسلوب بسيط للتخاطب والتراسل بين الناس… اللغة كانت في وقت من الأوقات متخلفة وأكثر قصوراً، مثلما كانت أمخاخ البشر أصغر في الحجم، ولكننا لا نستطيع أن نحفر الأرض بحثاً عن اللغات مثلما ننقب عن الهياكل العظميّة.
في الماضي القريب لم يكن أمام الباحثين سوى التخمين والبحث عن البدايات، وقد يبدو منطقياً أن نقول، إن أشد أنواع البشر بدائية، كانوا يصدرون قدراً كبيراً من الأصوات المعبّرة المستمرة، ثم أخذ المحتوى الرمزي يزداد بالتدريج في تلك الأصوات، بازدياد القدرة العقلية لذلك الإنسان البدائي، ولا نستطيع أن نقول متى حدث ذلك بالضبط، كما أننا لا نعرف نوع المخ اللازم لتلك العملية، ولذلك لم يستطع العلماء أن ينظروا إلى جمجمة حفرية ويقولوا: «لقد كان يتكلم» ولكن الكلام بالمعنى الحقيقي، لابد أن يكون قد ظهر في الوقت نفسه الذي بدأت فيه أولى بوادر الثقافة، لأن اللغة والثقافة شيء واحد إلى حدّ كبير، وهي تتألف من كل الأشياء التي قبلها الإنسان كطريقة للعمل أو التفكير، وبالتالي كل ما يعلمه الإنسان لغيره من الناس، وذلك لأن هذه هي الوسيلة التي تنتقل بها الثقافة، كما أنها، وهذه مسألة حيوية، هي الطريقة التي تتغير بها وتنمو وتتطور. الثقافة هي المعرفة برمتها، وكذلك تنظيم السلوك، والاثنتان من خصائص الإنسان، وهي «تُعلم وتتعلم»، وهذا ما فعله ذلك الشخص السوري الأوغاريتي الذي أحدث «ثورة» في عالم المعرفة والثقافة وقام بنقل ما اخترعه، وحوّل الكتابة إلى حروف بسيطة مختزلة، غيّرت الكثير من المفاهيم والعادات والقيم والمعارف… لقد فهم جيداً ما يمكن أن تفعله الثقافة من أجل البشرية.
لقد أدرك أن الثقافة يجب أن نقف إلى جوارها ومعها، وأن نقوم بتطويرها، وإلا ماتت، وأن أكثر المجتمعات نجاحاً، تلك التي تبحث عن ثقافة أفضل، فالإنسان والثقافة والمجتمع شيء واحد، وهذا الشخص الأوغاريتي الذي فكّر وأنجز اختراع الأبجدية، وقام بتقريب الحضارة من عامة الناس، كان من نتائج فعله العظيم «ثورة» في عالم العلم والمعرفة والكتابة والتطور. لقد اختزل الإشارات والرموز المسمارية التي كانت سائدة في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد والتي يبلغ عددها بين (800 و600) إشارة إلى 29 حرفاً (الحرف 30 مكرر)، وكانت مرحلة جديدة في تاريخ البشرية، جمعت تراث الإنسانية في قصة جميلة واحدة.
كانت هذه مرحلة الانتقال إلى الصوت، أي إلى المقاطع والحروف الأبجدية، وذلك بتحليل الكلام إلى سواكن وحركات، وهي مرحلة الكتابة الصوتية، وأعلاها الأبجدية التي أوجد لها في أوغاريت أول نظام في تاريخ الحضارة الإنسانية… هذا الاختراع الذي رفعه العالم «جالينو جاليكي» إلى درجة أعظم الاختراعات وأرفعها شأناً حين قال: «في الأبجدية الأوغاريتية تحقق تصور لطريقة يمكن بها تأمين التواصل الفكري بين البشر مهما تباعد المكان، وعبر كل زمان، وهي طريقة رائعة تصلح للتحدث إلى الذين لم يولدوا بعد، وإلى الذين سيولدون بعد ألف، أو آلاف من السنين، ويا لها من طريقة بسيطة! باستخدام بضعة وعشرين حرفاً وعلامة للكتابة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن