قضايا وآراء

«القريتين» وداعش.. هامش السياسة

مازن بلال : 

دخول «داعش» إلى «القريتين» يقدم تصوراً إضافياً حول تحركها بعيداً عن محاولة تطويقها سياسياً، فالمسألة لا ترتبط عملياً بالجهود الدبلوماسية لـ«محاربة» هذا الإرهاب، إنما بمحاولته كسر المعادلة السورية القائمة أساساً على التوازن الاجتماعي وسط جغرافية صعبة، وتنحو معظم المجموعات المسلحة على هذا السياق الذي يبدو أنه قاعدة الصراع القائمة حالياً، ويقدم دخول «داعش» إلى «القريتين» في ريف حمص، وقبلها دخول ما يسمى جيش الفتح إلى إدلب وجسر الشغور، أسلوباً «تاريخياً» واجهته سورية في أزمنة مختلفة.
عملياً فإن «التوازن الاجتماعي» الذي يعبر عنه بمصطلحات مختلفة ابتداء من الوحدة الوطنية، ووصلاً إلى التنوع الذي يحكم سورية، كان الرابط الاجتماعي المنسجم مع الجغرافية السورية وعلى الأخص في مرحلة الدولة الحديثة منذ الاستقلال وحتى اليوم، فالنموذج السوري إن صح التعبير تجاوز في آلياته صيغة «التوافق» المتعارف عليها في الأدبيات السياسية اللبنانية إن صح التعبير، ولم يكن للسوريين ميثاق كما حدث في لبنان عام 1943، وهم لا يحتاجون إلى اتفاق على شاكلة «الطائف»، لأنه بالدرجة الأولى لا ينسجم مع الجغرافية – السياسية السورية.
وما فعلته «داعش» هو إرهاب مختلف عن الصيغة المتعارف عليها دولياً، فقطع الرؤوس وسبي النساء وغيرها هو هامش فقط أمام سعيها لإحداث تحول على المستوى الديمغرافي، ووضع الجغرافية السورية أمام «استحقاق» مختلف تماماً عما واجهته خلال العقود التالية للاستقلال، ويبدو أن هناك نقطتين أساسيتين تنجزهما داعش وباقي الفصائل المسلحة بحكم بنيتها وتوجهاتها الفكرية:
– الأولى كسر «التنوع السيادي»، فأي شريحة سكانية سورية هي بنية سيادية لأنها ضمن «الهوية الوطنية» التي تشكلت في مراحل ما قبل انهيار السلطنة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ويتضح من أحداث متتالية مثل احتلال دير معلولا أو الدخول إلى «القريتين» واحتجاز عدد من الأهالي، أو حتى المجازر في ريف اللاذقية ومهاجمة مناطق جبل العرب، أن «التنوع السيادي» هو الذي يحرك «الإرهاب» ويرسم له الخرائط.
– الثاني إنهاء صيغة «الوسط التبادلي» للجغرافية السورية؛ ليس عبر التقسيم بل من خلال ممارسة القوة لتحول الحدود السياسية الحالية لسورية إلى «حدود مرنة» تقع ضمن التأثير الإقليمي والدولي، وعندما نتحدث عن «وسط تبادلي» فهو يعني بالدرجة الأولى عقدة التقاء ضمن شرقي المتوسط على الأقل يمكن من خلالها خلق توازن على المستوى السياسي والثقافي، وهو الوسط الذي أتاح ظهور التيارات الفكرية الأساسية في سورية منذ فترة ما بعد الحربين العالميتين وحتى اليوم.
رغم جميع عمليات «النمذجة» التي مارسها الإعلام بشأن سورية؛ فإن فكرة «التوازن الاجتماعي» بقيت ضمن الصورة الأساسية التي فرضتها «الجغرافية السورية» بالدرجة الأولى، وشكلت نمطاً سياسياً يتشكل من مسارين: السيادة والدور الإقليمي، وهو ما أكسب سورية تلك الأهمية، وهو ما يتم اليوم محاولة تجاوزه عبر حرب إقليمية من العراق ووصولاً إلى جبال القلمون، ولكن السؤال المفتوح: هل سنشهد «انتقام الجغرافية» حسب تعبير الباحث روبرت كابلان؟ إنها في النهاية معادلة التاريخ والجغرافية التي نشهدها اليوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن