ثقافة وفن

فتاة غسان.. شاعرة من دوحة الشعر الأصيل … آثرت العزلة في أحضان الطبيعة مسترسلة إلى الأفكار والأحلام حيث لا شيء يشوه جمال المشهد

| سارة سلامة- «ت:طارق السعذوني»

فاطمة الأحمد هي بنت العلامة سليمان الأحمد عالم الدين والبلاغة وأحد أهم المصلحين الدينيين والاجتماعيين البارزين، وأشهرت باسمها المستعار فتاة غسان الذي اختارته لتأثرها الواضح برواية كانت قد قرأتها لجرجي زيدان، وتعتبر من الشاعرات السوريات الرائدات، وكان مولدها في عام 1908 لأسرة علم وأدب في قرية السلاطة بمحافظة اللاذقية، فهذه الجذور لا بد لها من تربة خصبة لتبزغ فاخرة ببيئتها التي أشربت عطشها من كل علم ووعي وفكر تنويري.
ونظمت فتاة الشعر مبكراً بمساندة والدها الذي رعى هذه الموهبة نقداً وصقلاً، وكانت تنشر قصائدها في الصحف والمجلات الصادرة آنذاك، إذ نظمت الشعر وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وكان عنوان القصيدة «ذكرى الغريب»، وتعلمت على يد والدها حفظ القرآن الكريم ودواوين الشعر العربي، وأتقنت ما تعلمت وبرعت في حفظ الشعر، حتى تفتقت موهبتها في صوغ الشعر.
ولم تثنها حياتها الزوجية عن المشاركة في الحياة الثقافية، فاستمرت في كتابة الشعر والمقالات، وكان من أهم دعواتها استنهاض الشباب وتحرير المرأة ومنحها فرص التعليم، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن فتاة غسان واحدة من رواد عصر النهضة، التي لم تتردد يوماً في خوض معركة التنوير، ناشرة الوعي والفكر الاجتماعي والسياسي في آن واحد.
وبرعاية من وزارة الثقافة عقدت ندوة «سوريات صنعن المجد» الشهرية الرابعة بعنوان «فتاة غسان.. شاعرة من دوحة الشعر الأصيل»، وذلك في قاعة مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، وشارك في الندوة التي يديرها الدكتور إسماعيل مروة كل من أسامة ديب، ومحمد عبد اللـه قاسم، وجهاد بكفلوني.

أمل المستقبل
وفي تصريح خاص لـ«الوطن» قال معاون وزير الثقافة المهندس علي المبيض: «إن هذه الندوة تأتي تحت اسم (سوريات صنعن المجد)، وهي اليوم تتحدث عن فتاة غسان أخت الشاعر بدوي الجبل، إحدى السيدات الرائدات التي ولدتهن سورية لتكون علامة فارقة في الأدب النسائي المعاصر، والندوة تضيء على هذه القامة الثقافية والأدبية السورية الكبيرة، لأنه من شأن هذه الندوات هو تعريف الجمهور بالمرأة السورية وتاريخها خاصة في العصر الحديث، حيث يعمل الكثير من أعداء سورية على تشويه صورتها وإلصاق الجهل والتخلف بها، وتثبت هذه الندوة للآخرين أن المرأة السورية كانت دائماً إلى جانب الرجل وصنعت التاريخ السوري القديم المشرف».

نظرات في شعرها
ومن جانبه تحدث مدير إحياء التراث العربي الدكتور محمد عبد اللـه قاسم في محوره الذي اختار له عنوان (نظرات في شعر فتاة غسان 1908-1985م)، قائلاً: «إن فتاة غسان سليلة أسرة يصدر الشعر عنها كما يصدر العطر من الورد، ويطاوعها القول كما يطاوع النسيم الأنف، وفاطمة واحدة من أولئك الذين بسط اللـه لهم في البيان بسطاً، وأجزل لها رزقاً من القول الدفاق والكلام البليغ، ودمث لها درب الشعر، ووطأ لها الأكناف، فجاء شعرها سلساً عذباً أنيساً يحدث ما يشبه الشعر في شغاف القلب».
ويضيف قاسم: «إن فتاة غسان نشأت في حجر أبيها، وراقبت عن كثب ضيوف والدها وهم أشياخ الجبل ومتعلموه، وسمعت أحاديث مفعمة بالشعر والألم، وشدتها مناظرات في العلم والدين، ومناقشات في قواعد العربية، وإن لم تكن تعي ذلك كله فمن المحقق أن ذكاءها شحذ، وذاكرتها ازدحمت بما سمعت، ولما بلغت سن السادسة بدأ الشيخ سليمان يشرف على تعليمها بنفسه، لقنها مبادئ القراءة والكتابة وعلوم القرآن والحساب، ولم تدخل مدرسةً لصعوبة الانتقال إلى المدينة آنذاك».
وبين قاسم: «أن الطبيعة الحية حيث تشمخ الأشجار، وتفيض السماء بدموعها بسخاء، تبعث عطرها وأنغامها في شعر فتاة غسان، وتمد معجمها بالمفردات والصور والمجاز وشهوة القول حتى غدا شعرها كأنه آي مرتلات، والبيت الذي ترعرعت فيه وأتاح لها حرية التعبير، وشجعها على القول، ورعاها رعاية أي رعاية، كان له أبلغ الأثر في الفكر الذي حمله شعرها».
وبالنظرة في شعر فتاة غسان نراها تركز في موضوعات كثيرة من: «نهضة المرأة العربية، الشباب معقد الآمال، الوطن مهوى الفؤاد وشرفة الروح، التأمل نزوع أصيل في نفسها»، وفي النزعة الإبداعية والرومانسية يقول قاسم: «إن المقادير ساقت الشيخ كاملاً إلى بلاد المهجر سعياً في طلب الرزق، فتحرك شوق فاطمة إلى زوجها، وكتبه شعراً أصفى ما يكون الشعر الذي يرشح صدقاً وعذوبة تأخذ بمجامع القلب:
رعى اللـه أياماً قضيت بقربكم
وشمل الهوى بالرقمتين جميع
تذكرتها وهناً فهاجت صبابتي
وقلبي إلى داعي الغرام سميع
وغرد في جنبي حمام ألفته
ففاضت له من مقلتي دموع
يعاود قلبي ذكركم كل ليلة
إذ العيش مخضر الجناب مريع
لعل ليالينا تجود برجعة
فتلتام أكباد بهن صدوع
هذا شعر عربي عالي الديباجة يوشك أن يكون في شعر شعراء الطبقة الأولى من طبقات ابن سلام: امرئ القيس وزهير والأعشى ولبيد، فالرقمتان ميراث من الشعر الجاهلي وقع في شعر زهير:
ودار لها بالرقمتين، كأنها
مراجيع وشم في نواشر معصم
والرقمتان روضتان إحداهما قريبة من البصرة، والأخرى بنجد، أو الرقمتان روضتان بناحية الصمان، ورقمة الوادي: مجتمع الماء فيه».

تأثير البيئة في شعرها
أما محور (الفكر التنويري وتأثير البيئة في شعر فتاة غسان) فتناوله حفيدها الشاعر أسامة ديب الذي قال: «إن بداية القرن العشرين حملت رياح التغيير معها بالنسبة لمنطقتنا، تغيير كان لا بد منه بفعل حركة التاريخ والتطور، وبفعل التأثيرات الثقافية القادمة من الغرب، وقد ترافق ذلك مع عملية تحول واسعة من بنى وتركيبات اجتماعية تنتمي بجوهرها إلى المجتمعات الزراعية، إلى بنى وتركيبات أكثر ملاءمة للواقع الجديد، ولم يكن لعملية التحول هذه أن تمر من دون صدام ما بين قديم وحديث، وقد خلق هذا الصدام شكلاً من أشكال الحراك المجتمعي في مطلع القرن الماضي الذي أفرز بدوره رموزاً ثقافية واجتماعية لعبت دوراً مهماً في عملية التغيير أمثال الكواكبي والبستاني ووالد شاعرتنا العلامة الشيخ سليمان الأحمد».
وأضاف ديب: «إنه كيف لفتاة لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها مواجهة المجتمع بأكمله، ولم يكن يرى فيها سوى مجرد طفلة، مما لا شك فيه أن تلك الأفكار الجديدة قد حررت روحها، ودفعت بمخيلتها لتجمح إلى عالم من الآمال والأحلام التي تكدست في وجدانها، وإذ لم تجد صدى لصوتها بين أقرانها فقد آثرت العزلة في أحضان الطبيعة مسترسلة إلى تلك الأفكار والأحلام حيث لا شيء يشوه جمال المشهد، ويبدو ذلك جلياً في بواكير أشعارها، ونستطيع هنا أن نميز بين نمطين رئيسين من القصائد الوجدانية ذات النزعة الرومانسية والبرناسية أحياناً، النمط الأول عكس بشكل واضح هروب الشاعرة من حالة الصدام المباشر مع قيم الواقع السائدة آنذاك التي لم تكن لتنسجم مع آرائها وأفكارها، وقد أخذ هذا النمط شكل البحث الدؤوب عن صورة جمالية غاية في النقاء مستمدة من الطبيعة مثلت لأديبتنا النقيض المباشر للواقع المشوه، كما في قصيدتها نظرة في السماء:
قد بدت صفحة السماء لعينيّ…
فراقت حلياً ووسماً وشكلاً
هي عين المرآة قد أشبعتها…
أنمل الصاقلين مسحاً وصقلاً
وصفاء الأديـــم والليلة البيــضا
ء وأفـــق بالنـجوم محــلّى
أبهجت خاطري فرحت كما را
ح عليل من دائه قد أبلّا
وبين ديب: «إن الشاعرة استطاعت في قصائدها أن تكون جزءاً من الحركة النسائية بسورية، وتحدت ما كانت تعيشه تلك المرأة في ذلك الزمن، كما أن تتلمذها على يد والدها العلامة سليمان الأحمد وقراءتها للكتب التي ضمها في مكتبته أعطاها منحى وفكراً تنويرياً ينبذ العصبيات، وكثيراً ما صدمت بالواقع وهذا ما كان يشعرها بالقلق فنراها تذهب إلى الطبيعة باحثة عن الجمال والعزلة، إضافة إلى دعوتها المستمرة لتعليم جيل الشباب ولاسيما المرأة».

تفوقت على عصرها
ويراها الشاعر الدكتور جهاد بكفلوني ضمن منظوره الخاص حيث يقول: «فتاة غسان هي خنساء عصرنا بلا ريب، وقد شدني شعر القرشيين إلى الغوص باستخراج شيءٍ من تلك اللآلئ الكامنة قرأت لشاعر من حفدة الإمام علي اسمه موسى بن عبد اللـه بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي، قرأت له تلك الأبيات فأبت إلا أن تحفر في الذاكرة:
تولت بهجة الدنيا فكل جديدها خلق
وخان الناس كلهم فما أدري بمن أثق
رأيت معالم الخيرات سدت دونها الطرق
فلا حسب ولا نسب ولا دين ولا خلق
وأثار نفسي أمر في غاية الأهمية وهو السلالات الشعرية وهو أن الشعراء الكبار من الصعوبة أن ينجبوا شعراء كباراً من وزنهم، وها هي فتاة غسان وضعت لنفسها منهجاً شعريا كما وضع البدوي منهجاً شعرياً حافظ عليه، ونرى في قصيدتها (شروق الشمس) فتحاً في الشعر العربي، كما استطاعت أن تتفوق على عصرها بموهبتها وبكل ما قدمته من صور فريدة ولاسيما في وصف الطبيعة التي عدتها صديقاً يقي من الألم والحزن، وتعلقها الحميمي بالريف ومفرداته».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن