ثقافة وفن

مسألة اليهود في الإبداع والدراما … لماذا تأرجح التعاطي مع مسألة المكونات المجتمعية؟

إسماعيل مروة :

اليهود ديناً مكون من مكونات المجتمع العربي، ونحن نعرف اليهود السوريين والعراقيين واليمنيين والمغاربة، وغيرها من البلدان، وهذا المكون تمتع بحياته الاقتصادية والمهنية والسياسية من الدولة العربية في الأندلس، وحتى ظهور مسألة القضية الفلسطينية، واعتماد الصهيونية العالمية فلسطين وطناً لليهود، وحين اصطبغ هذا الوطن البديل بالصبغة السياسية والدينية والعقيدية اختلفت الرؤية لهذا المكون، وأزعم أن الكثير من هذه النظرة كان لغاية جمع اليهود في فلسطين وتهجيرهم من الأوطان التي هم مكون أساسي فيها، وصار التعامل مع اليهود وقضاياهم خاضعاً للرؤية السياسية، أكثر من خضوعه للمنظور الاجتماعي، وبعد خمسين عاماً من احتلال فلسطين كان اليهود المكون الاجتماعي غائباً عن المشهدية السياسية والاجتماعية، وأي مقاربة تخضع لرأيين لا ثالث لهما، أما أن هذه المقاربة يحكم عليها بأنها تهدف إلى التطبيع مع اليهود، وبالتالي الكيان الصهيوني الغاصب، وأما أن هذه المقاربة ينظر إليها على أنها عداء لليهود والسامية، وكشف لأسرار من المفترض ألا تكشف!! وفي الحالتين غابت الرؤية العلمية الصحيحة خلف مسميات وشعارات… وحين أنجزت الدراما السورية عملاً لم ينل حظه من المتابعة على الرغم من أهميته (الشتات) خضع للمقاربتين معاً، فالمتحمسون حكموا في أنه يسعى للتطبيع، والآخرون نظروا إليه على أنه عداء لليهود والسامية، والطرفان عملا معاً لإيقاف هذا العمل، وإلى اليوم لا نجد من يذكر هذا العمل المهم القائم على قراءة تاريخية، وحكم بإعدام هذا العمل.

«مع حبي» بعد «الشتات»
وعندما أنجز فيلم (دمشق مع حبي) للمخرج محمد عبد العزيز وبمشاركة نخبة من نجوم سورية المعروفين بانتمائهم والتزامهم، تعرض الفيلم لمضايقات كثيرة، وحين عرض في عرض خاص سمعت من الفنانين والحاضرين كلاماً قاسياً بحق الفيلم ومنجزيه، بلغ الأمر حدّ التخوين، مع أن الفيلم كان حالة وصفية قدم الآراء المتعددة، وربما من حسناته أنه قدم شرائح المجتمع التي وقعت فيما بعد في أتون الخلافات العويصة، ولم يتم تناول العمل نقدياً كما يجب، وحين كتبت عنه يومها عوقبت من شخصيات عديدة ومهمة أدبياً وثقافياً، وأهمل ما في الفيلم مع ما يحمل من إرهاصات وقيم ذات أهمية، ومع أنه عرض لليهود كمكون من مكونات المجتمع السوري في مرحلة متقدمة شهدنا شيئاً منها.
هذه الحساسية أجد لها مسوغاً، وإن لم يكن منطقياً، فالقضية الفلسطينية ذات مكانة كبيرة عند العرب، والغرب والإعلام، واليهود العرب تعاملوا مع هذه القضية تعاملاً زاد حدة الوضع، وقد حفلت الوثائق باليهود الذين تعاملوا منذ البداية مع القضية الفلسطينية تعاملاً دينياً مقدساً، وحولوا الدين إلى قومية، فكانت ردود الفعل مغالية في كل جانب من المكونات.

طالع الفضة من جديد
أما منذ سنوات قليلة فقد تغير الأمر، وهذا التغير كان سلبياً للغاية، وها هو يمر في درامانا من دون أن نعي، وأحياناً بوعي، وفي كلا الأمرين خطورة، ففي (طالع الفضة) وهو من الأعمال المقبولة بالطرح والمستوى كان اليهود محوراً، ومع وجود الشخصيات الراغبة في الهجرة والمؤدلجة، إلا أننا أمام شخصية محبة محبوبة «طوطح» هذه الشخصية تركت تساؤلات لدى المشاهد، ولقيت تعاطفاً مهماً في المتابعة، وقد بدأت القضية تكبر في طرح الأسئلة، ثم جاء العمل الذي كرس المكون اليهودي (بواب الريح) والذي أسند فيه دور كبير اليهود يوسف للفنان الكبير دريد لحام، وأداه ببراعة، وهو الذي عاش مرحلة التنوع في المكونات، وكان على دراية بكل ما كان من تفاصيل في المجتمع السوري، وفي العمل كان هذا المحور طويلاً وطاغياً ومحبباً بسبب إسناده لدريد لحام.. وفي تفاصيل العمل أشياء تستحق التوقف عندها طويلاً، ولكن الذي استرعى الانتباه هو ذلك الاستيعاب والطيبة والحكمة!! ومن خلال مجالس الكبارية وشيوخ الكار، ومن خلال مناقشة يوسف لأحد أبناء الطائفة الموسوية الذي أنكر أن تحب ابنته من غير دينه، من خلال هذه المشاهد ظهر تفوق أبناء الموسويين على ما عداهم!
هل هي طريق الوحدة الوطنية؟

تم كل ذلك في سعي الدراميين إلى إيجاد وسيلة للتعبير عن مفهوم الوحدة الوطنية، وقد غابت هذه المكونات سابقاً لتظهر فجأة وبصورة فجة، مع العلم أن الأدب والفن في سورية ومصر، ومنذ الخمسينيات كانا يعملان على طرح مفهوم العلمنة على حساب التشريح المجتمعي الواضح! فهل تعد العودة هذه إلى طرح أمور حساسة في المكونات من باب الاعتراف بإخفاق تحقيق العلمنة؟! ربما.
أما حكاية «باب الحارة» فأغرب من أن يتم تشريحها، فجأة وبعد مئتي حلقة تظهر الأسرة اليهودية، الطبيب وابنته، الطبيب المتفاني في خدمة مجتمعه والآخرين والابنة العاشقة للعكيد، واختار صناع العمل التجاور البيئي لسهولة التنقل والأحداث!
الأمور تتم بسلاسة، وتناسى صناع العمل مفهوم الأمومة والنسب لدى الطائفة الموسوية، ما يدل على غايات منها الارتجال وعدم التعمق!
إن هذا التناول المتقارب زمنياً، وفي أعمال حديثة، مقابل رفض التشريح العلمي سابقاً يطرح مجموعة من الأسئلة، أرجو أن نجد جواباً لها.

التوقيت وخطورته
إن الصورة التي ظهرت بها الطائفة الموسوية قد تكون صحيحة في الحالات التي تم تناولها، ولكن لو توسعت الشريحة فكيف يمكن أن تكون؟! أهم ما في الموضوع، وأخطر ما فيه هو التوقيت، ففي الوقت الذي تتناحر فيه مكونات المجتمع عامة، نجد الخلاف الإسلامي الإسلامي، والمسيحي المسيحي، والمسيحي الإسلامي، وفي الوقت الذي تتناهبنا صراعات سنة وشيعة، وإسلام ومسيحية تأتي هذه الأعمال، وقد يكون بنية حسنة من أجل تعزيز مفهوم الانتماء والوحدة الوطنية، تأتي لتشير من دون أدنى لبس إلى رقي هذه الطائفة وأناسها وتسامحهم، وما شابه ذلك من ثقافة جديدة تحاول طمس ما رسخ في الأذهان من (فطير حكماء صهيون) وإذا كانت تلك الأفكار غير سليمة، فلنملك الشجاعة على تغييرها ومواجهة الجمهور بها بشكل علني، وإن كانت صحيحة فعلى أي أساس نقدم ما نحن نقدمه؟!
الخطورة تكمن في تشظي المجتمع العربي بكل مكوناته، والصراع القائم بين كل جانب وآخر، وهذه الخطورة تحتاج منا إلى تفسير، وأظن أن ذلك لا يعجز صناع الدراما، سواء تعلق الأمر بالتمويل أو الكتابة أو الرسالة التي يريد صناع الدراما إرسالها، وأزعم أن التساؤلات التي طرحت من أول الأعمال إلى اليوم كافية للتدليل على الخطورة، وفي موسمين قادمين لا أكثر إن استمرت النغمة هذه، ستصبح المقاييس مختلفة في أذهان المتلقين، وسيصبح الحلم لدى المتلقي أن يعيش في مجتمع تحكمه تلك الطائفة، إن تعذر عليه أن ينتمي إليها!! ليس في الأمر مبالغة، فقد سمعنا من أهلنا عن طبيب موسوي شاطر وآدمي، لكننا بقينا عند حالات فردية، والحالات الجمعية قدمها الشتات2، وقدمها طالع الفضة في التمييز بين الأجيال المتعاقبة من الطائفة، بين طوطح وابنه.

الإعلام ودوره
ننفي دوماً أن الإعلام تسيطر عليه اليهودية العالمية، وإن شئت الصهيونية العالمية، وأنها هي التي ترسل رسائلها الإعلامية التي تخدم أغراضها، وعجزنا نحن عن إيصال رسائلنا، وعن صياغة خبر على المستوى الإعلامي المهني، واليوم بسب بما نعيشه من اقتتال وحروب لم تعد الآلة الإعلامية العالمية بحاجة إلى المزيد من الحملات الإعلامية، وارتاحت الماكينة الإعلامية العالمية للتخطيط للمستقبل الإعلامي القادم، فقد وصلت إلى أغراضها وفوق أغراضها التي تتمنى! وبقي إعلامنا وسيلة داخلية لا يسمعها غيرنا، ولا يتأثر بها سوانا، وها نحن نتكفل بإيصال الرسائل المطلوبة بذواتنا، وجهودنا، وأموالنا.. ترى لو أراد الإعلام العالمي أن يجمل صورة اليهودية، وبذل كل ما في وسعه فهل يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه (باب الحارة) و(أبواب الريح) والحبل على الجرار؟!
لقد تكفلنا بدرامانا أن نقدم لهم ما يريدون، وأن نقنع بما عجزوا هم عن الإقناع به! والدراما أكثر إقناعاً وتسللاً إلى ذهنية المشاهد المتلقي.

نوعية الخطاب
أختم بالحديث عن نوعية الخطاب المراد في الإعلام والدراما، فإن كنا نريد أن نستوعب المكونات عامة، فلنستخدم الدراما البيضاء كما اللهجة، ومن دون إشارات واضحة إلى الانتماءات السياسية والمذهبية والعقدية، وعندها نحقق الغاية المرجوة، وتلافيف العمل هي التي تظهر تلك الانتماءات بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، وهذا يتطلب منا- على الصعيد السياسي والمجتمعي- أن نعمل على فكرة المواطنة للوطن لا الانتماء الضيق، والحقائق تقول: إن فكرة المواطنة لم يتم تقبلها من الموسويين مع تأسيس الكيان الصهيوني، ولم يتم العمل عليها من الأنظمة العربية والنخب المثقفة! لذلك وصلت بلداننا بلا استثناء إلى التقسيم الطائفي والمناطقي..! وفكرة العيش مع الآخر إن تم الترويج لها، أو العمل عليها، فعلينا أن نسعى للأفكار الإنسانية العامة في الإطار الوطني، وهي التي يمكن أن تؤدي الغرض منها!
أفكار عديدة تتناهب المتابع، وهو يلحظ الخط البياني المتصاعد لتناول التشريح الطائفي والديني في درامانا للمجتمعات العربية، وكلها غير بريئة وتحتاج إلى إجابات دقيقة، ولعل أخطر ما قرأته أن هذا التناول يسير في إطار تعزيز الانتماءات الضيقة على حساب فكرة المواطنة!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن