ثقافة وفن

الشباب يصنعون السينما والأطفال أبطالها في تجارب شباب سورية … حكايات الواقع أغرب من الخيال و حضور بارز لمعاناة الإنسان في سورية والعراق

| نهلة كامل

قضايا عربية بارزة، وتجارب سينمائية معبرة تعكسها المراجعة النقدية الأخيرة لمهرجان دمشق الخامس لسينما الشباب والأفلام القصيرة، وهو يتحرك ضمن بانوراما محلية وعربية لم تتوقف عند الاطلاع على سينما جديدة، بل شملت معنى ومستوى المهرجان كطقس سينمائي طالما اعتزت به الأوساط الثقافية والشعبية السورية والعربية.

السينما بعين شابة
وقبل مراجعة الأفلام السورية والعربية التي قدمها المهرجان، نجد أنفسنا أمام قضية تنظيمية ساهمت في احتضان الطقس السينمائي السوري، هي ذلك التعاون بين وزارات الثقافة والسياحة والإعلام، والذي أشاد به محمد الأحمد وزير الثقافة، والذي أعطى ثمرته في ظهور سورية بأفضل حال أمام ضيوفها وجمهورها.
ولعل القضية السينمائية الأبرز هي اتجاه المهرجان إلى تقديم رؤية الحياة السورية والعربية بعين شابة، تتطلع إلى المستقبل بروح الإصرار على التمسك بأمل قريب أو بعيد، وذلك في مسابقة دعم سينما الشباب، والأفلام القصيرة الاحترافية.
وقد اتضح من خلال المهرجان أن تظاهرة سينما الشباب السوري كانت نتاج رؤية مدروسة لوزارة الثقافة ومؤسسة السينما التي اعتبرت الثقافة نوعاً من أنواع المقاومة، وعملت على دعم هذه الرؤية بالرعاية والتطوير والإشراف على تجارب الشباب السينمائية حتى وصولها إلى الإنتاج ودخولها مسابقة مهرجان سينما الشباب التي ضمت 29 فيلماً سورياً قصيراً.
وبالانتقال إلى مسابقة الأفلام القصيرة الاحترافية التي ضمت 23 فيلماً من 6 دول عربية، فإننا نجد أن قضايا الشباب ووجوههم وتجاربهم كانت الأجدر والأقدر تعبيراً عن الحياة الوطنية والعربية، وهكذا كان المهرجان بأفلامه ورؤيته مهرجاناً شاباً حتى وهو يقدم القضايا الإنسانية الأوسع لمجتمعه.

سينما المعاناة في سورية والعراق
ولعلي أستطيع مناقشة القضايا السينمائية العربية للمهرجان بصفتي عضو لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة الاحترافية إلى جانب رئيس اللجنة أمير أباظة من مصر وعايدة شليبغر المخرجة السينمائية من العراق.
وبالاطلاع على الأفلام القصيرة العربية أستطيع القول إن أغلبها يعكس قضايا مجتمعاتها، رغم تباين مستويات المعالجة الدرامية ونضج اللغة السينمائية.
لكن المعاناة الإنسانية وقسوة الحياة في ظل الحرب والإرهاب المسلح كانت الأكثر حضوراً في المهرجان، وقد كرست أفلام سورية والعراق البالغ عددها 13 فيلماً العنوان السابق، وبذلت جهودها للارتقاء بأسلوبها السينمائي إلى مستوى هدفها الكبير. وهكذا.. فقد شاهدنا في الأفلام القصيرة الاحترافية أكثر من فيلم لافت يستحق التنويه والجائزة لأنه يعبر بلغة سينمائية متطورة عن هموم ووجع الإنسان العربي بشكل يدعوه إلى ممارسة المقاومة من خلال سلوكه اليومي والعام..
ورأينا أفلاماً عراقية تجسد هذا المعنى من خلال سينما إنسانية تميزت بلغة شفافة وتعبيرية مؤثرة ومبدعة.. وقد استطاع فيلم «مصور بغداد» الذي استحق جائزة أفضل فيلم إيجاز تاريخ الحياة العراقية في 3 دقائق فقط، أما فيلم «الشيخ نويل» الذي نال جائزة أفضل سيناريو فقد قدم دراما مؤثرة وراقية المشاعر والأفكار بطلها رجل يعيش بالقرب من مخيم لنازحين مسيحيين. ما ألهمه أن يقوم بصناعة عربة تحمل إليهم هدايا الميلاد يقدمها وهو يلبس ثياب بابا نويل، لكن الجماعات المسلحة تهاجمه وتمنعه من تحقيق هدفه الإنساني واللاطائفي، وإضاءة شمعة فرح في ليل المخيم المظلم..
وشاهدنا تحت العنوان السابق ثلاثة أفلام سورية ترصد المعاناة والإصرار على الحياة رغم الإرهاب والحرب اللاإنسانية، وقد استحق فيلم «يوم من 365 يوم» للمخرج السوري أوس محمد بجدارة جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأنه استطاع من خلال رصد يوم من حياة شابة تعيش مع أختها المعقدة في بلدة مدمرة تحت ظل العصابات المسلحة تصوير تلك القوة الداخلية والإصرار على الحياة لدى جيل الشباب، وقدمت لقطة خروج الشابة للحصول على المياه اليومية مغامرة محفوفة بالمخاطر صورتها الممثلة الشابة «شهد عباس» بإبداع لافت حقق هدفاً مزدوجاً الأول رسم صورة واقعية لحياة الشباب السوري، وثانياً الإشارة إلى عنصر الماء الذي استهدفته العصابات الإرهابية أكثر من مرة.
ونال فيلم «حكايا من مراكز الإيواء» للمخرج غسان شميط تنويه لجنة التحكيم الخاصة، وهو فيلم وثائقي يقع في 60 دقيقة يروي معاناة النازحين السوريين من مناطق عديدة، ويصور ما تعرضوا له من مآس وفقدان وتشتت عائلي.. هو فيلم الواقع عن العنف المسلح والإرهاب والنزوح وانتظار الغد لعله يحمل العودة إلى المنزل ولم الشمل ولقاء المفقود، وهو فيلم الذاكرة السورية الحقيقية التي تشوه معالمها رواية الآخر المزيفة.
أما الفيلم السوري «أفراح سوداء» فقد قدم رؤية مؤثرة للحرب بعين أطفال سوريين نتوقف عند لقطاته المعبرة على الرغم أنه لم ينل جائزة وهو للمخرجة كوثر معراوي.

تجريبية الخيال في موازاة قسوة الواقع
واتسعت رؤية الأفلام العربية القصيرة، لتحلق أحياناً في فضاء سينمائي عربي ناضج، أو لتأخذنا أحياناً إلى تجارب كثيرة، تباينت مستوياتها التعبيرية، محاولة تقديم إضافة إبداعية ووضعها بشكل تساؤلات مشروعة تتقدم أو تراوح في مكان الواقع العربي، بل قد يتخطى الشك فيها يقين الإجابات.
ما أدى إلى ظهور تجريبية تحاول الوصول إلى ذاتها السينمائية الخاصة، فتبدع أو تبقى في إطار المحاولة.
ونلاحظ أن قسوة الواقع وإلحاح القضية، في سورية والعراق على وجه الخصوص.. أدى إلى لجوء السينما إلى عالم الخيال وتجريبية متحررة من المقاييس، وهذا بحد ذاته اتجاه متوقع وأسلوب مشروع.
وحيث شاهدنا أفلاماً تميزت بلغتها السينمائية الشفافة والمبدعة مثل فيلم جدار العراقي للمخرج علي هاشم الذي يرفض بعيني طفلة أن تشوه الحواجز الجدارية جمال الطبيعة والحياة وكاد الفيلم يحصل على جائزة لولا أنه بالمقارنة مع فيلم «مصور بغداد» كان أقل وضوحاً لعين المشاهد، وفيلم «تاتش» للمخرج السوري يزن نجدة أنزور الذي يرصد محاولة شابة للخروج من تحت سيطرة العالم الافتراضي وشكل التواصل الاجتماعي الرائج.
ويجد السينمائي أنه يجب عليه الذهاب إلى أقصى زوايا ذاكرته ومخيلته الإبداعية، ربما لأنه يريد التوازن مع واقع لا يزال أغرب من الخيال في العراق وسورية على وجه الخصوص، ما جعلنا نشاهد أفلاماً عراقية غرائبية مثل «هفاف» للمخرج حسين حافظ لعيبي، حيث يلاحق الشيطان شخصاً كمؤشر لحدوث تفجير الكرادة عام 2016 وهو الأعنف في تاريخ بغداد، وفيلم «نطفة» إخراج حسين فريد حيث يرفض الجنين الخروج من رحم أمه إلى قسوة الواقع.
ونستطيع القول إن السينما القصيرة في سورية والعراق ربما تذهب بعيداً، لكنها تفعل هذا من أجل كشف سينمائي يتوازى مع الواقع، الذي نراه بالنهاية ملهماً في الأسلوب أيضاً لأفلام مثل «أزقة الموت» للمخرج العراقي مصطفى علي، و«أفراح سوداء» للمخرجة السورية كوثر معراوي حيث يقدم المخرجان المعاناة الإنسانية بأبطالها من الشباب والأطفال والعائلات على أرض الواقع.

قلق في بيئة محافظة
وبالانتقال إلى الأفلام العربية القصيرة من مصر وتونس وسلطنة عمان ولبنان، حيث المجتمع أكثر أمناً بالمقارنة مع سورية والعراق، فإننا نجد أنها تضع رؤيتها السينمائية ضمن الخطوط العريضة لقضايا مجتمعها، لكنها تتراوح بين رصد القلق الواضح في بيئتها والمحاولات والدعوات إلى تغيير مشكلات واقعها، وتجعلنا المراجعة النقدية للأفلام القصيرة الاحترافية نؤكد أن قضايا جيل الأطفال والشباب ثم المرأة والمسنين كانت الأكثر نضجاً، حيث اتسعت دائرة المشهد السينمائي، وتعددت الأفكار، وتباينت القدرة على التعبير لكنها استطاعت بالنهاية أن تلامس أو تدخل في عمق الحياة الإنسانية العربية سواء كانت محافظة أو قلقة تطلب التطور.
إن فيلماً يناقش قضية الإبداع عند الأطفال مثل الفيلم التونسي «فراشة» للمخرج عصام بوقرة استحق تنويهاً خاصاً من لجنة التحكيم لإبداعه في تصوير طفل يريد صناعة فيلم في بيئة محافظة، وقد كان لافتاً أيضاً، فيلم «آسية» من مسقط للمخرج محمد الحارثي وهو يصور تجربة شاب مراهق يريد دخول السينما لمشاهدة فيلم بطلته ممثلة جميلة ولا يسمح له بسبب صغر سنه، وقد عكس الفيلم محاولة الشباب وهو يحاول الاطلاع على الحياة في بيئة محافظة.
واهتمت الأفلام القصيرة من لبنان بتقديم تجربة الطفولة وهي تحاول التفوق «إبداعاً» على الواقع حيث شاهدنا «فيلم فادي» للمخرج فادي سعادة؟، وفيلم «أنت بطل» للمخرج محمد الحوماني.
ولا نستطيع تحديد اتجاه خاص لتقديم قضية المرأة، لكنها ظهرت بطلة وأول من يعاني ويلات الحرب في مجتمعاتها، وقد ألهمت المرأة الفيلم اللبناني «عادل» للمخرجة اللبنانية آنا كريستينا غنوم حيث تنكرت بزي الرجال في زمن الاحتلال الفرنسي للتحريض على الثورة ولما كانت المفاجأة أن الشاعر عادل ليس إلا شابة لبنانية.
وقد كان جديداً وإنسانياً وإضافة ناجحة أن يكرس المخرجان نهال القوصي ومحمد عبد اللطيف من مصر فيلم «ونس» لتصوير حياة المسنين وواقع الشيخوخة وهو يتتبع علاقة زوجين في أواخر العمر وفقدان أحدهما للآخر من خلال أسلوب سينمائي شاعري وشفاف، واستحق الفيلم بجدارة لذلك جائزة أفضل إخراج.

مصلحتنا: حرية السينما
ونترك الحرية لمراجعتنا النقدية، وهي توسع مشاهدتها وتعمق قراءتها وتستنتج في وقفة أخيرة أن الأفلام التي نالت الجوائز والتنويه تميزت بإبداعها السينمائي وتعبيريتها اللافتة في رصد قضايا حياتنا العربية، لكن هذا لا يلغي الحضور المهم لبعض الأفلام مثل «حنا مينه» للمخرج السوري نضال قوشحة وغيره من الأفلام العربية التي تفوقت في بعض عناصرها السينمائية ولم تكتمل صورتها في إطار المهرجان، يشفع لها أن السينما لا تحب الأطر، وتحاول أو تجعل كادرها السينمائي حراً، أمام هذه الحرية المطلوبة نعبر عن حبنا لأغلب الأفلام فازت أم لم تفز، وهي تعمل من أجل حرية السينما، فالحرية هي مصلحتنا جميعاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن