ثقافة وفن

عبد الرحمن سامي ودمشق قبل 125 سنة

نصر الدين البحرة : 

عبد الرحمن سامي هو أحد الكتاب الذين عُرفوا في مصر في مطلع القرن العشرين، وقد عثرت أخيراً على نسخة جديدة مجلدة تجليداً أنيقاً عن كتاب له عنوانه: «القول الحق في بيروت ودمشق» صدرت طبعته الأولى حتماً أواخر القرن التاسع عشر، ذاك أنه في الأسطر الأولى من هذا الكتاب الذي يعد من أدب الرحلات الممتع، يذكر أنه غادر مصر يوم الخميس 19 حزيران سنة 1890 الساعة الخامسة بعد الظهر على الباخرة النمساوية التي تملكها شركة «لويد». وبعد سفر ثمانية أيام وصل إلى بيروت صباح الثامن والعشرين من الشهر نفسه- حزيران 1890.
تجول عبد الرحمن سامي في بيروت وبعض أنحاء لبنان، ثم ركب عربة الخيل التي كانت «لشركة طريق الشام الفرنسوية» متوجهاً نحو دمشق، ويصف البلدات التي مر بها في لبنان خلال ذلك: عاليه، سوق الغرب- شتورة… حتى بلغ وادي الحرير، حيث غيرت العربة خيولها، كما هي العادة، إذ تتعب الخيول بعد أن تقطع مسافات محددة، ويبدو أن هذه المسافات لم تكن طويلة جداً فما إن وصلت العربة إلى الجديدة… حتى كان تغيير الخيل أيضاً.

في الديماس 150 بيتاً فقط
وحين وصل إلى الديماس كتب يقول: «إنها قرية كبيرة تضم 150 بيتاً ونيفاً، وهي مبنية على مرتفع، وفي ضواحيها كثير من الكروم والتين، وفيها بضعة دكاكين، وهي مشهورة لأنها محطة للمكارين يبيتون فيها عند سفرهم من الشام وعند رجوعهم من بيروت، والمسافة بينها وبين الشام على البهائم المحملة ست ساعات ونصف الساعة، والمدة التي يقطع بها المكارية الطريق بين بيروت والشام هي أربعة أيام».

أطلال قصرين على الطريق
يلاحظ راكب السيارة المنطلق من دمشق نحو دمر قبل أن يصل إلى هذه البلدة الضاحية على يمين الطريق، إثر تقاطعه مع سكة القطار خرائب وأطلالاً، ثم لا يلبث أن يشد انتباهه قصر آخر مهجور بني على طراز القصور الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر… وعندما يقرأ هذا الكتاب يعلم أن تلك الأطلال هي بقايا قصر أحمد باشا الشمعة، وأن ذلك القصر المهجور القائم على علٍ هو قصر الأمير عبد القادر الجزائري.
إن عبد الرحمن سامي وقد وصل إلى هذا المكان لا يملك أن يخفي انبهاره بسحر الطبيعة، وها هو ذا يقول:
«هناك تجلت لنا الطبيعة بأبهى محاسنها، وتأكدنا صدق ما قيل بأن الشام جنة الله في أرضه، حيث ضاق الوادي وصار سيرنا بين جبلين، البعد بينهما نحو نصف ميل، وكان نهرا يزيد وتورا يسيران بارتفاع عن يسارنا في الجبل، والطريق إزاء تورا، وعن يميننا بردى ينساب بمائه اللجين على حصباء كالدر، ورؤوس الجبال تكللها أشعة الشمس، والأشجار على جوانب المياه صفوفاً…».

سكان دمشق عام 1890
… يحاول عبد الرحمن سامي أن يجري بحثاً حول أول من بنى مدينة دمشق ووضع أسسها ويستعرض وجهات نظر متعددة، لكنه ينتهي مثلما انتهى النعمان قساطلي في كتابه «الروضة الغناء»- وقد قرأه هذا الرحالة بعد وصوله إلى دمشق- إلى عدم الجزم بأي قول، وإن يكن يرتاح إلى فكرة أنها كانت مدينة مشهورة أيام سيدنا إبراهيم منذ ما ينوف على ثلاثة آلاف وثمانمئة سنة.
وهو يكتب أن عدد سكان دمشق كان في تلك السنة 1890 مئة وخمسين ألف نفس أما الأجانب بها فقلائل، إذ لا يبلغ عددهم الأربعمئة نفس.

خمس مراتب لأهل دمشق
يقسم المؤلف أهل دمشق في ذلك الزمن من حيث أسباب معيشهم إلى خمس مراتب هي: مستخدمو الحكومة، أصحاب الأملاك، التجار، الباعة، المحترفون أو أصحاب المهن، مستخدمو الحكومة يعدون بضع مئات وهم مختلفو الدرجات في الثروة والاقتدار يتزيون بالزي الإفرنجي، أصحاب الأملاك أكثر عدداً، وعوائدهم في ملابسهم ونظام بيوتهم غالباً شرقية، أما التجار فكثيروا العدد، وهم قسمان، قسم يتجر بالبضائع والمحاصيل، وقسم يتجر بما ينسجه من المنسوجات الشامية وبما يصنعه من البضائع، والباعة يبلغون نحواً من سبعة آلاف نفس وجميعهم ذكور إلا شرذمة قليلة جداً من النساء يسمونهن «دلالات» شأنهن بيع بعض الملابس القديمة في أحد أقسام سوق الدلالين، سوق الأروام المسمى: سوق النسوان، ويصل المؤلف أخيراً إلى أصحاب المهن فيسميهم العَمَلة، ويقول: إنهم كثيرو العدد لكثرة ما في هذه المدينة من الصنائع والمهن، فإن فيها من أنوال النسيج فقط ما يبلغ خمسة آلاف وخمسمئة نول: تشغل نحواً من خمسة عشر ألف عامل، منهم نحو خمسة آلاف امرأة ونيف، وتعمل كل منهن في بيتها في تسليك الحرير والغزل.

الرجال في القنابيز والطرابيش
ويصف عبد الرحمن سامي ملابس الرجال قائلاً: إنهم يلبسون القنابيز ويتمنطقون فوقها بشالات أو زنانير حريرية، وجميعهم يلبسون الطرابيش إلا أن معظمهم يتعممون فوقها بعمامات صغيرة من قماش الأغباني، وطلبة العلم منهم يتعممون بعمائم من قماش الشاش الناصع البياض، أما النساء فمتبعات الأزياء الإفرنجية في ملابسهن وترتيب شعورهن. وحُجَر الدماشقة كبيرة واسعة مرتفعة السقوف وهي مربعة أو مستطيلة، وترتيب فرشها شرقي فإنهم يبسطون في وسط الحجرة السجاجيد، أو البسط العجمية أو الحصر، ويضعون حولها مما يلي الجدران مقاعد مُلاصقٌ بعضها لبعض، حشوها في الأغلب صوف أو ما يقوم مقامه، ويعلقون على الجدران المرايا أو القطع الجميلة الخط أو الصور، وفي جدران حجرهم كتبيّات كبيرة، والكتبية عبارة عن خزانة في الجدار ارتفاعها نحو ذراعين وعرضها ذراع وعمقها ثلث أو نصف ذراع، ويعرضون فيها الأواني الثمينة، وأصل وضعها كما يستدل من اسمها كان لأجل الكتب، أما السرر فقليلة جداً، واصطلاحهم أن يفرشوا فرش نومهم على أرض الحجرة، وفي الصباح يطوونها في خزانة بجدار الحجرة مصنوعة لهذه الغاية يسمونها: يوكاً، ولابد لكل صاحب بيت ولو كان فقيراً من حجرة مفروشة في بيته لأجل استقبال الضيوف.

أسواق دمشق وخاناتها ومقاهيها
في ذلك التاريخ سنة 1890، يعد المؤلف من أسواق دمشق 28 سوقاً، ومن خاناتها 139 خاناً، منها ما هو خاص بالتجار ضمن المدينة، ومنها ما هو للبهائم وإيواء المكارين وهو متفرق في أنحاء البلدة، أما المقاهي في دمشق فقد كان عددها ينوف على 120 مقهى، أحدثها أنشئت في المرجة فيجتمع فيها الناس ليلاً ونهاراً، في فصول السنة الثلاثة الربيع والصيف والخريف، وأما عدد حمامات المدينة فقد كان في ذلك التاريخ ثمانية وخمسين حماماً أشهرها حمام القيشاني، وهو الآن سوق مغطى!
ويذكر 153 جامعاً كانت في دمشق ما عدا المدارس الكثيرة وترب الأولياء العديدة..
…. إن قراءة كتاب عبد الرحمن سامي نزهة حقيقية… للروح والذكرى والتاريخ.. وهو لون جميل من أدب الرحلات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن