الأولى

الحريرية السياسية

بيروت – محمد عبيد : 

لم يتغير المشهد السياسي اللبناني الداخلي كثيراً منذ خروج الجيش العربي السوري من لبنان في العام 2005. فالطبقة السياسية التي نشأت وترعرت في كنف النفوذ السياسي السوري إثر البدء بتطبيق وثيقة الوفاق الوطني التي عُرفت باتفاق الطائف وجدت في القرار الدولي رقم 1559 فرصة مؤاتية للتخلص من النفوذ السياسي السوري وتوسل رعايات دولية وإقليمية أخرى بدءاً من واشنطن وباريس مروراً بالدوحة وصولاً إلى الرياض كي تؤمن بقاءها ممسكة بمفاصل الدولة وتكرس لها الحفاظ على نظام المحاصصة الطائفية.
وإذا كان الوقت الحالي غير مناسب لمناقشة التجربة السورية في لبنان التي امتدت إلى نحو ثلاثين عاماً مع مارافقها من صراعات داخلية لبنانية وفلسطينية – لبنانية عدا عن الاختراقات الدولية واجتياحات العدو الإسرائيلي، إلا أن ما لا يمكن تجاوزه والذي رسم للبنان موقعاً على الخريطة الإقليمية هو الإحاطة والدعم السوري الدائمين والثابتين للبعد المقاوم في التركيبة اللبنانية وإن اختلفت العناوين والأسماء وفقاً لتبدل أولويات القوى المعنية بالمقاومة.
فقد شكلت سورية على مدى سنوات وجودها في لبنان غطاء استراتيجياً للمقاومة – وخصوصاً مع حالة حزب اللـه – في مواجهة الحملات الدولية والإقليمية من إسرائيلية أو حتى عربية في بعض الأوقات بالتوازي مع محاولات إبقائها بمنأى عن الصراعات الداخلية أو الانغماسات الداخلية في موضوعات الصراع على السلطة والمحاصصة والفساد، ما مكّن المقاومة من التعايش مع هذا الواقع دون الاصطدام به إلا في حالات نادرة.
لكن لم يكتب لهذا التعايش أن يستمر طويلاً، ذلك أن المقاومة وجدت نفسها أمام معضلة مواجهة الواقع السياسي القديم – المتجدد الذي فرضه الخروج السوري في لحظة دولية وإقليمية حادة كان المطلوب فيها مع هذا الخروج وبعده حصار المقاومة ومن ثم نزع سلاحها بضغط دولي وإذا تعذر فبحرب أميركية – إسرائيلية وبمساعدة أيدٍ لبنانية. هذه المعضلة التي استوعبها حزب اللـه مرات عدة وتجاوزها مرات أخرى عبر التمسك بترتيب سلم أولوياته القائمة على مبدأ حفظ المقاومة أولاً وأخيراً عادت اليوم لتفرض نفسها لسببين أساسيين:
الأول، مشاركة المقاومة في صد الحرب الكونية على سورية والتي استطاعت أن تحمي لبنان من تداعيات هذه الحرب داخلياً على الصعيدين الأمني والعسكري تحديداً، إلا أنها في الوقت ذاته أدت إلى تنامي حقد تلك الطبقة السياسية على حزب اللـه انطلاقاً من انعكاس انتصارات الحزب على الحدود اللبنانية السورية على موازين القوى الداخلية بما يُضعف قدرتها على التحكم بمستقبل لبنان بعد نضوج الحلول في الملفات الإقليمية والتي من المفترض أن تفرزها التفاهمات المنتظرة كتداعيات للاتفاق النووي الإيراني.
وثانياً، المسعى السعودي المتجدد للإمساك بالورقة اللبنانية من خلال محاولات كسر العماد ميشال عون وتياره بهدف عزل حزب اللـه داخلياً والتلويح لبعض المنضوين في إطار قوى 8 آذار بإمكانية الانضمام إلى جنة الرعاية السعودية في حال المشاركة في هذا المسعى ما يؤسس لإعادة إحياء منظومة «الحريرية السياسية» بشكل علني، على اعتبار أن حزب اللـه- وفقاً لرؤيتهم- سيضطر إلى الانسحاب إلى الخطوط الخلفية سياسياً نظراً للإبقاء على اعتباره دولياً منظمة إرهابية والحاجة الإيرانية إلى تجاوزه في حال أرادت طهران تقديم نفسها بمظهر مختلف على الساحة اللبنانية.
يبدو أن لبنان صار مفتوحاً على الصراعات في المنطقة ولو من البوابة السياسية حتى الآن، ولا شك أن التداخل بين أزماته الداخلية وهذه الصراعات سيعقد المشهد السياسي فيه، لكن ربما هي فرصة لإعادة صياغة نظامه السياسي أو على الأقل إصلاح بعضه بما ينهي حقبة اتفاق الطائف الذي انهارت ركائزه الدولية والإقليمية بعد الاشتباك المباشر الأميركي- السعودي من جهة والسوري من جهة أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن