من دفتر الوطن

إنسان من هذا الزمان!

عصام داري : 

توسلت إلى الأبجدية أن تمنحني مخازنها ولو لفترة محدودة كي أقطف منها كليمات تليق بمن أكتب لهم، فقدمت اعتذارها معاتبة: من طلب العلا سهر الليالي، ومن امتهن الكتابة لا يتوسل الكلمات والحروف.
هكذا وجدت نفسي مرة أخرى أمام أوراق بيضاء علي أن أرسم عليها حروفاً وكلمات وجملاً لها معنى، لا أن «أخربش» بلا هدف ولا جدوى.
ولأنني شاهد على مرحلة هي الأخطر التي تمر فيها سورية، فلا أقل من أن ألقي بشبكتي في هذا البحر المتلاطم لأصطاد ما يجود به، لكن حصادي كان مرّاً هذه المرة.
رأيت فساداً يتوالد من فساد، والذين يدفعون الثمن هم العباد..
رأيت الأغنياء يزدادون فرداً ويتزايد الفقراء مئات.
الموت يحصد الفقراء حصراً، في جبهات القتال ضد الغيلان والجرذان، وحتى في المدن والقرى، ولا يزور الأغنياء، لا داخل حدود الوطن ولا في المغتربات التي باتت المكان الرسمي لإقامة عائلات بأكملها من السويد لألمانيا وفرنسا. والفقراء، إذا هربوا من ملاك الموت فيذهبون إلى الزعتري ليستقبلهم ملاك الموت نفسه، أو يتلقون إذلال الشقيق، أو من كنا نعتقد أنه الشقيق، فنقطع الماء عن عطشنا لنروي عطشه.
ناس من أبناء الوطن تنام وتصحو على العتم والظلام، وناس من أبناء الوطن تقيم حفلات الماتينيه والسواريه وأعياد الميلاد والأعراس والليالي الملاح وسط مهرجان من الأضواء الملونة، الكهرباء متواصلة، كبث محطات التلفزة الزائدة عن اللزوم، أربعاً وعشرين ساعة على أربع وعشرين.
ولأن حياة المواطن ولقمة عيشه خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه، فلا بأس في رفع سعر المازوت فقط خمس ليرات لليتر الواحد، ولن يرتفع سعر إلا نحو خمسين سلعة فقط لا غير والمواطن يتحمل لأننا في حالة حرب، وعلى الفقير وحده أن يتحمل حالة الحرب، على جبهات القتال، وخلف خطوط المعارك.
لست غاضباً إنما اكتشفت أنني فقدت تركيزي بعد أن رفضت الأبجدية المحترمة أن تعيرني حروفها، وأن تفتح خزائنها لأكتب زاويتي اليوم، ويبدو أن هذه الأبجدية هي صمام أماني، وإذا فقدتها أفقد توازني، وأخرج عن حدود اللباقة واللياقة، وأنسى الموسيقا والشعر والرسم والفنون، وتهرب مني دروب مشيتها أيام الصبا صارت مزروعة بالأشواك والألغام.
أعيدوا لي أبجديتي قبل أن تتفجر ألغام زرعت في الدروب والنفوس.
أعيدوا لي حروفي فقد أضل الطريق وأذهب إلى فوهة البركان.
أعيدوا لي لغتي قبل أن أفقد نعمة النطق وأنسى بداياتي الإنسانية!.
أعيدوا لنا الشعر والزجل والحكايات والموسيقا والمواويل، وسهر الليالي على ضوء قمرنا الذي ربينا معاً، وقطعنا السنوات معاً.
دعونا نروِ زهرة الحب قبل الذبول، ونقطف ثمرة العمر قبل أن يغمرها الطوفان، ألسنا في زمن الزلازل والطوفان واليباب؟.
حلوا وثاقنا فقد أدميتم معاصمنا، وتحولت دموعنا أنهاراً من دم منسكب على الخدود… اعذروني، لست أنا من يكتب أنه أنتم، وظلم الأبجدية لي في يوم وحيد أرجو ألا يتكرر كي لا أفقد القدرة على تذوق الشعر والموسيقا، وكي أتذكر أنني مازلت إنساناً من هذا الزمان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن