ثقافة وفن

قطري بن الفجاءة.. الفارس المهجور والشاعر المطموس

| أحمد محمد السح

غلبت على شعراء قليلي العدد الصراحة والجرأة في القول، وكأن الشعراء لا يكونون شعراء إلا حين يصيرون «قعدين» أي في سن التقاعد عن الحرب وحمل السلاح، وهذا ما أضعف حملتهم السياسية التي كان الشعر حاملها في ذاك العصر، وكما كل الحركات السياسية قليلة العدد تجعل من ثنائية الموت والحياة أساساً في معركتها وترجّح كفة الموت على الحياة، ويعتبر الخارجي القتيل المدافع الأشجع والرجل الخالد لأنه مات من أجل عقيدته، وهذا الأسلوب تعتمده الحركات السياسية التي تلبس لبوساً دينياً حتى يكون غطاءً دافعاً لمسيرة الموت من أجل فناء الفرد في سبيل استمرار حياة الحركة، فالخوارج لم يكونوا أولى هذه الحركات ولن يكونوا آخرها. وكان من الأسباب الداعية إلى الخروج: رفض التحكيم، والانتقام لضحايا النهروان، وصار من الأسباب- فيما بعد – ما هو مرتبط بقسوة الحكام الأمويين، ورأي الخوارج فيهم أنهم استأثروا بالمال من الجباية، وهذا يؤكد ارتباط الحركة الخارجية بالواقع السياسي الجديد، وتطوير شعاراتها بتطور الأحداث.

أكّد الإسلام أن الموت ليس نهاية المطاف، إذ يُبعث الإنسان إلى حياة الأبدية؛ فإن كان من الصالحين كان من أهل النعيم، وقد انعكست هذه العقيدة في أشعار الخوارج بشكل لافت، وكانت تدفع بهم ليواجهوا الموت ويطلبونه، وقد تمتع شعراؤهم بالعديد من الصفات التي يمكن أن تُقال في كل خارجي إنه صادقٌ في عقيدته، فأدى ذلك إلى تشابه شخصياتهم الشعرية، وتماثل شعرهم في الصورة الكبرى، الشخصية الخارجية التي كانت في حوار دائم مع النفس تذمها جراء ميلها للحياة الدنيا وتصل بها العقيدة إلى تكفير القاعد عن القتال ولزوم تكفيره، جاءتهم شخصية قطري بن الفجاءة بانقلابةٍ إنسانية حين نودي عليه خليفة في الأحواز على الخوارج الأزارقة، وقد اجتمع الأزارقة عليه لحنكته وشجاعته ولينه، وهو الخبير بصاحبه المهلب بن أبي صفرة الذي ولاه الأمويون أمر محاربة الخوارج، وابن الفجاءة يعرف الحرب ويعرف خوالج النفس وما تدعو إليه من هوان وله قصيدة عينية هي الأشهر لقطري فيمن يذكر من شعره، لا بد له أن يعرفها يعاتب نفسه فيها ويقول:

أقولُ لها وقد طارت شعاعا
من الأبطالِ ويحكِ لن تراعي
فإنكِ لو سألتِ بقاء يوم
على الأجل الذي لك لم تطاعي
وما للمرء خيرٌ في حياةٍ
إذا عُدّ من سقط المتاعِ

هذه الأبيات قد يقولها شعراء كلاماً «فيقولون ما لا يفعلون» كما في النص القرآني، لكن قطري مات في سبيل كلمته وقد كان هذا الشعر انعكاساً لرغبته في القتال، والدفاع عن معتقده لا كلاماً مرصوفاً للحماسة فحسب، فهو الذي يجد غايته في ركوب المخاطر واجتياز المحظورات، ولولا ذلك لما كان سيد حركةٍ اعتبرت مارقةً على مرّ التاريخ، فالدلالات اللفظية في الكلمات التي يستخدمها ورنين موسيقا الحروف يمكن تفسيره من صهيل الخيل وصليل السيوف وقرع القنا الذي عاش فيه، فهو الصاخب في حياته والصاخب في شعره، والملتقط بحساسيته الشعرية كأن لديه كاميرا غاية الدقة فيما تصور فهو الذي يتخيل أن العقاب في السماء كان يظلل خيله في المعركة من حرّ الشمس، وله هذه القصيدة التي صوّر بها صوراً ويقدمها على غيرها من صفات فيه:

يا رُبَ ظلِ عقابٍ قد وقيت بها
مهري من الشمس والأبطال تجتلدُ
فإن متُّ حتف أنفي لا أمت كمداً
على الطعان وقصر العاجز الكمد
ولم أقل لم أساقِ الموتَ شاربَهُ
في كاسه والمنايا شرّعٌ ورِدُ

هذه الأصوات والمفردات التي يستخدمها قطري متناسبة بشكل جدي مع موقف المعركة ومالها من مآلاتٍ وجلبة، فالمفردة خير أداة لشاعر بمستوى قطري حين يستخدمها في تحفيز روحه وأبناء جلدته على القتال، فهو يعتمد بنية ملحمية موسيقية، فهو نشيد انتصار لأفكار الخوارج أكثر منه انتصاراً للفن الشعري، وتتخذ أدوات النداء في قصائدهم موقعاً تحفيزياً جديداً لتوظف وظيفة الندب في أغلب الأحيان، فتكون أداة تحريضية أكثر منها أداة نداء، وهذه النزعات الدرامية تستطيع أن تصل لقطري في الأوقات التي تهمس فيها نفسه لنفسه وتتعب من حربها وطعانها فتلجأ كما كل خارجي إلى استجداء الموت الذي هو الغاية والبنية الأساس في العقيدة، فلم تكن الحياة مطلباً لهم، وهم الزاهدون في الحياة والنافرون من متاعها وأتعابها:

أقول لنفسي حين طال حصارها
وفارقها للحادثاتِ نصيرها
لك الخير موتي، إن في الموتِ راحة
فيأتي عليها حينها ما يضيرها
فلو أنها ترجو الحياة عذرتها
ولكنها للموتِ يحدى بعيرها

لم تكن الحرب عند الخوارج عملاً لبناء دولة فهم لم يكونوا يخططون لبناء دولة إنما لإزاحة الطغمة الفاسدة التي اغتصبت السلطة من وجههم، فالشعراء الخوارج وقطري بن الفجاءة حصراً سخر غزله القليل لأم حكيم المرأة الشجاعة التي اختارها زوجةً له، وكان ذا سعيٍ دائم لتحقيق مآربه حتى مقتله أو اندقاق عنقه بوقعةٍ عن خيله حسب الروايتين اللتين تذكران موته سنة 78 للهجرة، وعليه فإن قطري كما حاصره الأمويون ومسحوا ذكر الخوارج إلا بحذر مسحوا من شعره وأشعارهم الكثير وندر من تذكرهم أو أقام دراساتٍ تفصيليةً من شعرهم إلا هو نسخٌ ولصقٌ لما ذكر عنهم، وحده الشاعر علي الجندي تذكر ابن الفجاءة وأهداه مجموعته الشعريةَ «الحمى الترابية» التي رأى فيها شيئاً من روح ابن الفجاءة التي تمثلها وأعجب بها، وهي من النوادر التي يعجب فيها شاعر حديثٌ بشاعرٍ قديم، غير معروف، فكيف إذا كان من الخوارج.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن