من دفتر الوطن

ثلاثة مبادئ

| حسن م. يوسف 

اكتشفت مبدئي الأول منذ أن ملكت زمام عقلي، وحدقت لأول مرة في عيني زمني، وهو في طريقه إلي، قلت لنفسي: «لا تتبع لأحد، ولا تسمح لأحد أن يكون تابعاً لك». وقد حاولت ما أمكنني، أن أبقى مخلصاً لهذا المبدأ في لحظات القوة كما في لحظات الضعف، في لحظات الفرح والسرور كما في لحظات اليأس والغم. وقد تعرضت بسببه لمتاعب كثيرة.
قبل سنوات عرفت رجلاً نمَّاماً لا يهدأ لسانه في حلقه، وقد التصق الرجل بي نحو شهر وبذل جهوداً هائلة لتحويلي إلى تابع له، ففشل في ذلك، فما كان منه إلا أن غير وجهته فجأة وأخذ وضعية التابع، وعندما رفضته تابعاً، كما رفضته متبوعاً، تحول فجأة إلى عدو لدود لا يتورع عن قول أو فعل أي شيء يلحق الأذية بي. يومها كتبت في دفتر ملاحظاتي العبارة التالية: «تاعسٌ وخسران من يستبدل بالصديق التابع! تاعسٌ وخسران من يستبدل بالفرات حفنة ماء!».
قبل سنوات اعترفت للصديق العزيز الراحل عادل الحديدي، في حوار أجراه معي أنني كنت في صدر شبابي «حاداً كالشفرة، ومندفعاً كجدول جبلي يريد أن يقفز مباشرة إلى قاع البحر كي يحلِّي مياهه ويستعيد لها براءة الينبوع الأولى! كانت أحلامي أكبر من رأسي، وكان حبي أكبر من قلبي، وكان إيماني بالناس أكبر منهم!
والآن بعد أن اختلطت مياهي بغيرها، فهمت ماذا كان يقصد ألبير كامو عندما قال: «من يرد أن يغير الواقع فلابد أن يلوث يديه». وفي لحظة الحقيقة هذه أعترف أن ينبوعي قد جاور المجارير، وأن مياهه قد تلوثت، في رحلتها من أعالي الجبال إلى بالوعات المدينة. لكن نبعي الأول ما يزال مختبئاً في محارة قلبي، وعندما أكتب تنفتح المحارة، ويتدفق في داخلي ذلك النبع الصغير الأحمق الذي يريد أن يقفز مباشرة إلى قاع البحر كي يحلِّي مياهه، فتعود الأحلام أكبر من الرأس، ويعود الحب أكبر من القلب، ويعود الناس أكبر من إيماني بهم.
بعد تلاحق ضربات الحياة، على الرأس وفي القلب، تبنيت مبدأ آخر عثرت عليه مجسداً في قصيدة بعنوان «إلى الولايات» في ديوان «أوراق العشب» للشاعر الأميركي والت ويتمان، وقد قمت بترجمة تلك القصيدة وعلقتها فوق سريري، قبل سنوات من قيام الشاعر الكبير سعدي يوسف بترجمة ديوان «أوراق العشب» إلى العربية وإصداره عن دار ابن رشد في بيروت عام 1979. وإليكم ترجمتي لقصيدة ويتمان، التي يمكن توجيهها لأي بلد أو فرد في هذا العالم:
«إلى الولايات / إلى كل واحدة منها/ أو مدينة فيها: / قاومي كثيراً / وأطيعي قليلاً / فأي أمة أو ولاية أو مدينة / تطيع مرة واحدة طاعة عمياء / لن تستعيد حريتها بعد ذلك أبداً».
ثمة قصيدة أخرى تركت ظلها العميق على روحي، وجعلتني أعتمدها مبدأ ثالثاً لي، وهي قصيدة صينية قديمة، عمرها آلاف السنين، لم أعثر على نصها، لذا أورد ترجمتها من الذاكرة: «البرعم الجديد طيع ومرن / والجذع اليابس خشن وصلب/ الطفل الوليد طيع ومرن / والعجوز الميت خشن ومتخشب/ من هنا نرى أن الطيع والمرن / هو الحي».
قال لي أحد الأصدقاء قبل أيام بماذا توصي ولديك مايا ورام؟ قلت ما أردت أن أوصيهما به حققاه بأفعالهما. قال: «وماذا ستكون تلك الأفعال لو حولناها إلى كلمات؟» قلت: «لا تتبع لأحد، ولا تسمح لأحد أن يكون تابعاً لك». «قاوم كثيراً وأطع قليلاً». كن «طيعاً ومرناً» كما يليق بك ككائن حي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن