ثقافة وفن

خالد الأسعد متصوف تدمر

د. ناديا خوست : 

في مقالع حجارة في قمة جبل في القارة الأوروبية، بعيداً عن السياسة الغربية التي سلحت جيوش التدخل في سورية، قدم فنان ذواقة عرضاً ضوئياً عن لوحات رفائيل وتماثيل ميكيل آنج. عرضاً يذهل بقدرة الإنسان على الإبداع، والكشف للمعاصرين عن التراث الإنساني الفني. نستطيع بمثل ذلك العرض في الطرقات التي تهدأ في المساء، ومقالع الحجارة التي نبشت الجبال، نشر فنون الحضارة السورية وتأمل المنحوتات التدمرية، وكمال الرؤية التي خططت مدينة، والحرص الدؤوب على تجسيد الجمال.
لكن المتوحشين أعدموا المختص الكبير باللغة التدمرية، الحارس المتصوف الذي جعل تدمر محور حياته، هواه وهاجسه، ابنته وحبيبته! طوال نصف قرن رافق خالد الأسعد الزوار والمنقبين، وكان يعدي زوار تدمر بهواه، يأخذ بأيديهم ليطلعهم على ما شفّت له حجارتها، ويزداد تعلقاً بها كلما توغل في معرفتها. لذلك لم يكن رفضه الرحيل من تدمر مفاجأة. مع أنه خمّن مصيره. شعر بأن تدمر في لحظة الضيق تحتاجه.

ألا تعبر صورته التي نشرتها صحافة عالمية أمام منحوتات مدفن تدمري عن ذلك الهوى؟ وما الحياة دون تدمر للعالم المولع بها! ليست تدمر بالنسبة له ما يفتن السائح في المنحوتات والأعمدة والتيجان والأبراج! فالشخصيات المنحوتة على المدافن أصحابه، وأزمنة تدمر التي يستحضرها أو يستشفها حياته. يتجول في محطة عالمية بين البحر المتوسط والخليج أذهلت بعمارتها وأناقتها قوافل طريق الحرير القادمة من الصين، يسمع هدير ألوان قوافلها، تفوح عليه التوابل، ويخفق أمامه الحرير والسجاد، يتفرج على عروض مسرحها، ويحضر جلسات مجلس شيوخها، وفي الليل تبدو له من معبد بعل وفي طريق الأعمدة الشاهقة هيبة نجومها. من غيره يتصور تدمر حية، أعمدتها قائمة، والمبتهلون في معابدها، وكتابها ينسخون العقود باللغة التدمرية! لو كان كل منا مثله يهب روحه وعمره للدفاع عن غابة أو نهر أو عمارة، لو كان كل إنسان يورث هواه وتصوفه مثله، لتلألأت هذه البلاد الثمينة كالجوهرة!
كمتصوف ومختص أعجب إعجاب العارف بزنوبيا، ونشر مع عالم دانمركي كتاباً عنها. لامس مواكبها، ومشى معها إلى مصر وأنطاكية، واجه معها الإمبراطورية الرومانية في لحظة مضطربة قدرت أنها مناسبة لإعلان استقلالها. كتب: «لم يكن حسها السياسي أكثر من ثقافتها، فكانت متفتحة العقل تتكلم بطلاقة التدمرية واليونانية والمصرية، وضمت إلى بلاطها الفيلسوف اليوناني لونجين وأسقف أنطاكية بولس الشميساطي، وكانت تحب علم التاريخ». ونقل ما كتبه عنها مؤرخون رومان: «كانت سمراء لوّحتها الشمس، سوداء العينين يشع منهما بريق رائع، أسنانها كالآلئ، وتتكلم بصوت رنان قوي، وتخطب في جنودها معتمرة الخوذة، وكانت تركب العربة الحربية وقلما تعتلي السرير المحمول، لكنها تمتطي الجواد أغلب الأحيان». في كتابه، فتح التخمين كمن يفهم أن مثلها يفضل الموت على مكان أسيرة في موكب الفاتح أوريليانو.
ربما عاش هذا العالم سعادة لا يعرف مثلها إلا من نسج عمله بروحه، وهو يمشي في الفجر وفي الغروب متسائلاً عما تخفي الأرض مما لم يكشفه بعد، مخمناً روعة مفاجآتها. يحاور التماثيل الغائبة، ويجول في رواق الأعمدة تحت السماء التدمرية المرصعة بالنجوم. يتأمل بحث الإنسان في الحياة والفناء والتوق إلى الخلود، البحث الذي طرز العالم بفنون المعابد وصاغ الملاحم. ويفهم التدمري القديم الذي هدأ قلقه بالإيمان بقوى أعظم منه، كلما شعر بأنه ذرة صغيرة عابرة، ووصل من بعلشامين إله السماء، والآلهة التي اختالت طوال قرون، إلى الإيمان بإله واحد «هو الذي اسمه مبارك إلى الأبد، الإله الرحيم الخيّر».
كان خالد الأسعد يعرف تدمر أكثر مما يعرفها أي إنسان آخر. مع ذلك، كم سحرت غير المختص! بأصالة الفن السوري، ومخطط المدينة العالمية الشرقية، ومئات التفاصيل.. ورق الدوالي المنحوت في الحجر، الخطوط التي صاغ منها الفنان التدمري لوحة، نساء المنحوتات بملاءتهن التدمرية التي تكشف تموج الشعر ونضارة العنق والحلي ورهافة الأصابع وتذكر بملاءة المصريات ونساء دير الزور ومابين النهرين. قال لي صلحي الوادي: «أذهب أحياناً إلى تدمر لأراها من القلعة في غروب الشمس. هل يخطر لك أي جمال مذهل يملأ الروح وقتذاك»؟ يقطع أكثر من مئتي كيلومتر ليمسك بلحظة! قبله، سحرت تدمر نساء بريطانيات تحدث عنهن المختص الآخر بتدمر، الدكتور عدنان البني: ليدي ستانهوب وجين ديغبي وبلنت وبورتون، والمعاصرين الذين ملأت عيونهم مدينة وردية في الغروب، لا مثيل لها في العالم، تجمع جلال الآثار بالواحة.
ذكر خالد الأسعد في نسخة من كتابه كرمني بإهدائه، «زيارة تدمر». كان يتمنى أن يستقدم السوريين جميعاً إليها. قال ونحن نتجول في المتحف: يحتاج هذا المتحف ضعف موازنته! هل كان يقدر أن الآثار في بلد حضارة عظيمة يجب أن تكون في مستوى الدفاع الوطني؟ وأنها أولا لورثتها، ليعرفوا كنوزهم، ويربوا بفنونها، ويستلهموها. وليحتاطوا بتلك التربية من الجهل الذي يصور أنها أصنام شعوب أخرى. وليؤمنوا بأن النحت يبعد عن العمارة التجهم، ويحيي خضرة الحدائق. ويتذكروا أن النحت العالمي أجرى، بعد ربة الينبوع السورية، الماء من منحوتات نوافيره.
ولد النحت في بلاد الشرق ممزوجاً بالعمارة. تطلعت فيها الأعمدة المزينة بالتيجان والتماثيل إلى السماء. لا مثيل لهذا التراث السوري! فقد أي قطعة منه كارثة تضيّع على الإنسانية مقطعاً من ذاكرتها وفنونها. ما حضارة السوريين غير هذا الكنز من الأساطير والملاحم والرقم والمعابد والمنحوتات التي أبدعها السوريون قبل ألفي سنة؟ ألا نتساءل لماذا تتلهف مافيات الآثار عليه، ولماذا يتسرب بعضه إلى إسرائيل؟
لا يستطيع أي مصطلح فكري يتناول النحت أن ينسينا الجوهر السياسي: يتضمن الصراع العربي الصهيوني صراعاً على الهوية التاريخية، ومن شواهدها النحت. ولا نستطيع أن نهمل أن العقل الذي يعادي منحوتات الحضارة منع تزيين بلادنا بمنحوتات حديثة. ومن خرج عليه استولد كتلاً رمزية من دون ملامح إنسانية!
لذلك التراث التدمري العظيم وهب خالد الأسعد عمره، ثم افتداه بحياته. من يقرأ كتبه يلمس إيجاز العالم، دقته وإحاطته، وروح المحب الخفاقة. وهاهو كالمنحوتات التدمرية التي زينت أعمدة مدينته. لكنه إلى ذلك أضاف مثلاً نحتاجه في هذه الأيام العربية الكالحة، مثلا على التفاني في حب مدينة، والإخلاص حتى الموت لقضية، والرد النقي على بؤس الثقافة!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن