ثقافة وفن

قال لي أشياء لا أعرفها..

| إسماعيل مروة

الهوى لحظ شآمية..! ليت يدري أنه العود الطروب! هو سمّاني أنا أغنية.. إنه الهوى، وهل الحياة إلا ذاك الهوى الذي عاشه أبو نواس فبقي وخلد على الزمن، وهو الذي رامه عمر بن أبي ربيعة فصار فتى الشعر والشعر بعد أن كان فتى بني مخزوم؟ الحياة والهوى لحظ ولحظة هي وحدها التي تبقى عندما تنهار الحياة ليرددها المدى أغنية على عود طروب، وأنّى لهذا العود أن يكون طروباً بغير لحظ شآمية، أو لحظ حب؟!
المحب هو الذي يصبح محبوبه عنده أغنية لتبقى على لسانه يرددها في كل لحظة وحين، لا يمل تردادها، ولا تبتعد عن مهجته ولسانه وروحه.. الوطن هو ذاك المحبوب، المرأة هي ظل المحبوب، بل هي التي تكسب المحبوب الأسمى معانيه العظيمة الباقية الخالدة.. لولا اللحظ ما كانت امرأة، ولولا المرأة ما كان الوطن..
كتب سعيد عقل وغنت فيروز، وتحولت القصائد والأغنيات إلى قلائد عظيمة في وطن عظيم، سُلّ السيف من غمده، عاد إلى غمده، فعل فعله، عاد مضمخاً بالدم، وبين لحظة وأخرى عصف الدمار، عمّ الخراب، انتشر الرماد، وحين انقشع كل شيء لم تبق إلا أغنية حب، وامرأة تنتظر على شرفة فجر الغد ترسم ملامح الغد، وتشكل من تحبه على هواها، تحدد لون عينيه، وتعطيه نبضاً، وتمشي إلى جواره، بل تسمح له أن يمشي في ظلها ليكسب خلوداً أبدياً باقياً، يقوم على افتداء روح وقلب، على نبض لا يتوقف بتوقف الحياة..
كتبوا للبطولة
تغنوا بالفروسية
وصفوا المعارك من الحدث الحمراء إلى كل معركة جرت
دوّنوها فكانت وثائق
وحين وقف أمام دمشق هام باللحظ، وأنشد للغناء والطرب والطروب، لذلك بقي، ولذلك نتغنى بما جاد به إبداعه، حين نقرأ ونسمع، نعرف لماذا تحولت هذه القصائد إلى سمفونيات، إلى إلياذة دمشقية تتراقص بالكلمة والصورة والقافية، وتنتشي بلحن من عالم عبقري لا مثيل له..
كانت البطولة عنده حباً
وكان المسرح تاريخاً ورحلة عشق
وعلى أشلاء الكره بنى عالماً فريداً خاصاً، وصارت ترنيمته أعلى من ترانيمه كلها، وكانت قصائده وكلماته في الشام، والعشق فوق ما يمكن أن يتخيل إنسان عجز عن أن يكون محباً..
ثمة فرق بين أن تكون قوياً أو أن تكون محباً
القوي بطل يقاتل فيقتل، ويقتل، ويمكن أن يرديه سهم صائب أو غادر
السلاح ماضٍ وفتاك، ولكن قد يتفوق عليه سلاح آخر أحدث
أما الحب فشيء مختلف
تسند رأسك إلى مغارة
إلى صخرة
إلى أم
إلى حبيب
لتكتشف أن عمرك أعمار
وأنك وحدك لم تضع حياتك في الكره
شغلت ليلك بتذكر اللحظ والحب ومن تحب، والآخر شغل باله بالقوة والمجد
جميل أن تكون قوياً، لكن الأجمل أن تكون محباً
جميل أن تكون قادراً، لكن الأجمل أن تكون محتوياً..
كل الأقوياء ضاعوا وبقي المحبون من امرئ القيس إلى نزار
المبدعون الذين رسموا معالم الفكر تاهوا، وبقي من رسم معالم الحب
أراغون بقي بجنونه بإلزا
رسم جنونه، فكان إبداعاً لا يطوله الهرم والنسيان، وفي كل يوم يأتي من يتعشق إلزا بعيني أراغون.. لا يذكر الباستيل، ولا تعنيه مبادئ الثورة الفرنسية الطوباوية التي تمنع القوة تحقيقها..
هو سمّاها أغنية
هو من رأى لحظ الشآمية
تبقى براعته.. ضاعت آراؤه، أعجبت كثيرين، انتقدها كثيرون..
وشعره فصيحاً لغرض، ومحكياً لأغراض ضمن مجلدات وورق..
وبقي حبه وحده
للشام وحظها
للغناء وبهجته
هل كان يدري أنه العود الطروب؟
قال لي أشياء لا أعرفها!
هل عرفها هو..؟!
الوطن بالحب والغناء واللحظ والتفاني
وتبقى سيمفونية الحب
وتحتجب عنا
هي لا تعرفها!
هو لم يفصح عنها!
ونحن نرددها على المدى لنعشق وطناً وتراباً
لتتماهى بإنسان هو في حالة تطابق معنا
القوة تحمي لكنها سياج
والحب وحده هو القادر على أن يبني
يبني وطناً
يبني إنساناً
الحب لا حدود له.. طيران في المطلق
رحلة في عالم لا نعرفه وإن سمعناه..
رحلة في أشياء لم يدرك قائلها كنهها، وعندما نسأله يفغر فاه مستغرباً من فهمنا، ومتعجباً
من أبعاد ما قاله، ولم يكن يحسب له هذه الأبعاد!
وحده رحلة للمطلق، وغذاء للقلب والأرض
وحده ينبش الأرض فيخرج ماء..
وحده يعيد العقول من جديد ليزهر الوطن..
اجعل حياتك أغنية، وكن العود الطروب، ولا تجزع من أن تكون أنت..
يتسلل النغم إلى روحك
تموت على حدود الوطن منتشياً
يغمرك لحظ الشآمية التي افتديتها..
وما جادت به الموسيقا لحنك الجنائزي العذب
سيعيدك إلى الحياة بعد عشرة آلاف سنة
وقال لي أشياء لا أعرفها..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن