ثقافة وفن

الصراعات الأدبية: معاركُ الحبر العنيفة … هل يحتاج الأدب إلى غبار الحوار الأدبي العاصف؟ .. هل صحيح ادّعاء أدونيس بأن نوبل لا تعنيه ولن ينشغل بها؟

| أحمد محمد السح

تعتبر المعارك الأدبية والنقدية نوعاً من الحراك الثقافي الذي ينشأ بين أطراف متضادة في الرؤيةِ والأهداف، حيث يسعى كل طرفٍ منها إلى تعزيز موقفه والتفوق على الآخر للفوز بكسبٍ ماديٍّ أو معنوي، ولكن لا يمكن إنكار أثرها الكبير في تطوير الفكر والثقافة والأدب، وتنشيط حركة التأليف، كما تحتوي على مساوئ تشمل ما يجره الصراع من حنق وضغينة في النفوس، وتنشأ المعارك بين الأفراد أو بين الجماهير، وقد ثارت في العصر الحديث معارك بين رواد الأدب العربي جذبت إليها أنظار المهتمين بالفكر والثقافة بقصد متابعة تطوراتها والوقوف على نتائجها، ويسمي رجاء النقاش النصف الأول من القرن العشرين «عصر القسوة في النقد الأدبي»، ويرى جهاد فاضل أنها من الأدلة على اليقظة في الوجدان لدى النخب الفكرية، كما تعتبر نوعاً من وسائل التفتيش عن الحلول وقد كان ذلك أكثره في عصر النهضة الذي أسهم في صياغة أفكاره ومشاريعه المثقفون لا السياسيون، وينتقد محمد صالح الشنطي تلك المعارك واصفاً إياها بأنها نماذج لمعارك فاشلة، إما لسوء طبع بعض الأدباء أو لأسباب أخرى لا تليق، ويرى أنه لا ينبغي الاقتداء بها، أما البعض فيجد أن الأدب العربي يحتاج إلى غبار المعارك الأدبية، فمناخات الصلح والوفاق إن كانت تصلح للحياة العامة فإنها لا تنتج في الأدب إلا النفاق الثقافي وغض الطرف، من أقدم المعارك كانت بين زكي مبارك وأحمد أمين الذي كتب سلسلة مقالات سماها جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي، وفيها ذكر أن العرب لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير كما هي الحال عند اليونان، وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال، كما رأى أن التراث العربي لا يصلح لتربية الأذواق الأدبية عند الناشئة، فرد عليه زكي مبارك عبر مجلة الرسالة بسلسلة من المقالات بلغ عددها اثنتين وعشرين مقالة، عام 1939، سماها جناية أحمد أمين على الأدب العربي وقال: (إن أحمد أمين لم يوجه إلي أي إساءة وإنه لم يؤذ أي أحد من المعاصرين، ولكنه وإن كف شره عن الأفراد فقد وجه شره إليّ التاريخ، فهو يدرس ماضي اللغة العربية بلا تحرز ولارفق، ولو تركنا النقد له شهرين اثنين لجعل الأمة العربية أضحوكة بين العالمين)، كانت ردود زكي مبارك ناجزة ومفحمة ومفعمة بالسخرية، ووقف زكي مبارك خريج السوربون موقف المعتز بلغته وعروبته، على حين ظهر أحمد أمين خريج الأزهر متسرعاً لا أكثر، ومثلها المعركة بين عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي، وقد جاوزا حدود اللياقة بين الأفراد، وزاد من اشتعال الخصومة الصراع على صداقة سعد زغلول والتنافس على حب مي زيادة، وقد بدأ الصراع على صفحات المؤيد عام 1914، حيث نشر العقاد مقالاً سماه فائدة من أفكوه، يدلل فيه على ضعف القياس عند الرافعي وتناقضه، وقد هاجم العقاد الرافعي بسب الألقاب التي كان يوقع بها لنفسه مثل: نابغة الكتاب بالعربية، وزهرة شعرائها، وطفق الرافعي يكتب سلسلة مقالات سامة، نشرها في كتاب واحد أسماه «السفود» وهو الذي تسميه العامة «السيخ» وكأنه سيجعل من العقاد على السفود ليشويه على الجمر نقداً، وكتب على غلاف الكتاب هذه الأبيات:
وللسفود نارٌ لو تلقت
بجاحمها حديداً ظن شحماً
ويشوي الصخر يتركه رماداً
فكيف وقد رميتكَ فيه لحما
وقد بين الرافعي رأيه وقال: علينا ألا ننسى أن العقاد في رأي نفسه ورأي الكثيرين هو جبار الكتابة، فنحن نريد أن نضع أنفه في الأرض مقدار ساعتين على الأقل، فهو لم يتجرأ عليه أحد من قبل، على حين سمى العقاد الرافعي بالشاعر المراحيضي.
نشر طه حسين محاضراته التي ألقاها في كتاب سماه «في الشعر الجاهلي»، وقد نشر فيه أن معظم ما جاء من الأدب الجاهلي منحول ومن نظم شعراء إسلاميين أرادوا أن يدعموا آراءهم السياسية ويرضوا نزعة التنافس بين بعضهم بعضاً، وقد استخدم طريقة ديكارت في البحث، وعرض طه حسين شواهد الكتب المقدسة وعدها آراء لا يمكن الاستناد إليها، وقد أثار هذا الكلام مجموعة من الأدباء الذين رأوا فيه خروجاً على الدين، وجرأة على الأدب العربي، واتهمه الرافعي بالإلحاد وأوصل القضية إلى البرلمان، فلم يجد طه حسين سبيلاً سوى أن يعدل في كتابه ويعلن إيمانه، ويغير عنوان الكتاب إلى «في الأدب الجاهلي» وقد وجد كثيرون أن طه حسين يورد آراء المستشرق الإنكليزي مارغيلوث في الشعر الجاهلي، من دون أن ينسبها إليه.
وكما طه حسين كان شديد الدخول في صراعات، فإن الشاعرين نزار قباني وأدونيس قد دخلا في صراعات متعددة، منها ما خاضاه ضد بعضهما في أوائل السبعينيات بعد حوار أجراه نزار قباني مع صحفي لبناني في مجلة يشرف عليها أدونيس؛ وعاد نزار قباني فنشر الحوار في كتيب من دون أن يذكر اسم المجلة التي نشرت الحوار، فكتب أدونيس مقالاً عنيفاً يهاجم فيه نزار الذي رد بمقالٍ أعنف وكادت المعركة تصل إلى المحاكم لولا تدخل أصدقاء الطرفين للمصالحة، نزار قباني شاعر يثير الجدل منذ بداية انطلاقته وكان الحراك الثقافي له جدواه وفحواه، فالشيخ علي الطنطاوي كتب عن ديوانه الأول (قالت لي السمراء) مقالاً طويلاً يقول فيه: (من أين أتى شاعر الشام بهذا الديوان، فلتقل هذه السمراء ما تشاء)، وكان في المقال جمل عنيفة منها ما يقوله: ( فيه أشطار طولها واحدٌ بالسنتيمترات يشمل على وصف ما يكون بين الفاسق والقارح والبغي المتمرسة الوقحة وصفاً واقعياً لا خيال فيه). وبعد قصيدة «المهرولون» لنزار، التي يهاجم فيها اتفاق السلام الفلسطيني ويقف ضده، تصدى له نجيب محفوظ في مقال نشرته مجلة روز اليوسف يقول فيه: (إنها قصيدة قوية جداً وقنابل تفرقع في عملية السلام، من دون أن تقدم بديلاً منه، لكنه موقفٌ من عملية السلام أضعف من القصيدة بكثير)، وكان محفوظ يقف مع عملية السلام على حين كان نزار قباني يقف موقفاً حاسماً برفضها، وكان لنزار رد في جريد الحياة اللندنية بدا فيه أهدأ حيث قال: « الأستاذ نجيب محفوظ رقيق كنسمة صيف، إنه رجل اللاعنف الذي يمسك العصا من وسطها، وليعذرني عميد الرواية العربية إذا جرحت عذريته الثقافية، فالقصيدة ذئب متحفز ليلاً ونهاراً تواجه اللصوص والمرتزقة وقراصنة السياسة وتجار الهيكل».
أما أدونيس فقد خاض سجالات عدة كان أبرزها مع العراقي عبد الكريم الجنابي الذي اتهم أدونيس بالسرقة الأدبية والفكرية وأصدر كتاباً سماه: (رسالة مفتوحة إلى أدونيس في الصوفية والسوريالية ومذاهب أدبية أخرى)، حيث يتطرق إلى مقارنات يتهم أدونيس بأنه سارق في كتابه الشهير «الصوفية والسوريالية» لكنه كان أضعف من أن يذكر مرجعاً محدداً فالتزم أدونيس الصمت حتى لا يعطي للأمر أهميته، وكثيرون يصدرون حتى اليوم المقالات تلو الأخرى حول مواقف أدونيس التي تتهمه بأنه يلهث لنيل جائزة نوبل، وهو الذي أكد مراراً أنها لم ولن تكن تعنيه.
يبدو صعباً اليوم أن نتابع سجالاً أدبياً لتحديد الحراك الثقافي في أي بلد، الوسط الثقافي اليوم لا يقرأ، والمقالات التي تقرأ الكتب أغلبها مداهنةٌ ونفاق، أما الصراعات فإنها تشبه صوت صراصير الليل أو أدنى من ذلك هي ملاسنات شخصية تدخل في محاكمات أخلاقية لبعضهم بعضاً، فلا يختلف الأديب عن صاحب أي مهنة أخرى في الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن